يؤمن الكاتب المصري حمدي أبو جليل بأن ثورة الكتابة في مصر سبقت ثورة 25 يناير 2011 بسنوات، وبالتالي فإن الأسئلة المطروحة عبر الكتابة اختلفت كثيراً عن تلك التي اعتادت الرواية العربية طرحها، تلك الأسئلة التي ظلّت تتصاعد حتى وصلت إلى المحطة الحالية التي ستشهد، وفقاً لصاحب «لصوص متقاعدون»، الصدام الحاسم بين المثقفين والتيارات الدينية. إضافة إلى روايته «لصوص متقاعدون»، صدرت لأبي جليل الذي تولى أخيراً رئاسة تحرير مجلة «الثقافة الجديدة» القاهرية، رواية «الفاعل» ونال عنها جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركة في القاهرة، وثلاث مجموعات قصصية، وله تجربة وحيدة في الكتابة للطفل، فضلاً عن عمليه التوثيقيين: «القاهرة... شوارع وحكايات»، و «القاهرة الجوامع وحكايات». التقيناه وكان هذا الحوار: وصف الروائي الراحل خيري شلبي التقنية السردية في رواية «الفاعل» ب «تكنيك الهرتكة»، هل كان ذلك التفكيك الفني أو الكولاج ضرورة أم أنك اخترت أن تخوض غمار التجديد للتجديد؟ - أنا طبعاً أعجبني هذا الوصف، خصوصاً أن خيري شلبي، وهو الروائي الراسخ، وجد ما يبرر انفلات بناء رواية الفاعل. حاولتُ كثيراً أن أضع «الفاعل» في قالب الرواية المحكمة الراسخة، قالب الأستاذ المؤسس نجيب محفوظ، والأستاذ الغزير خيري شلبي، ولما فشلت المرة تلو الأخرى، استسلمت، لأن حياة «الفاعل» هكذا، مفككة ومشتتة وناقصة ومهددة وشديدة الغموض. بطل نجيب محفوظ كان يعرف على الأقل أين يسكن ويعمل ومتى ينام ويصحو، بينما «الفاعل» في الهواء الطلق. قدمت صورة للبدوي مغايرة للسائد في الرواية العربية، مبتعداً من أسطرة الصحراء، كيف كنت تتوقع تلقي القارئ لهذه الصورة، وكيف ترى تجربة قريبة مثل تجربة الروائي الليبي إبراهيم الكوني؟ - سبق لي الانخراط في معمعة تقديم البدوي بالشكل الأسطوري السائد، وبلغ بي الأمر درجة الإعجاب بكتابات الكوني، خصوصاً رواية «التبر»، ولكنني اكتشفتُ أنه يقدم صورة شديدة الغنائية والرومنطيقية، وأكاد أقول السلفية الدينية المتعصبة للصحراء، واكتشفتُ أيضاً أن البدوي خصوصاً والإنسان عموماً هو أسطورة في حد ذاته. وما الضير في استخدام الوهم والكتابة عن الصحراء والبدو في شكل أسطوري طالما أنك تقدم نصاً أدبياً لا تقريراً صحافياً؟ - لستُ ضد الكتابة عن الصحراء بصفتها أسطورة، لكن عليك أن تقدم منطقاً داخلياً مقنعاً، وهو ما تفتقده روايات إبراهيم الكوني. مثلاً الجمل مذهل باعتباره جملاً، وليس باعتباره كائناً عجيباً يكاد يسفر عن تأملات عميقة في رواية الكوني. الأمر يصل أحياناً الى درجة الكاريكاتير، وأعتقد أن ذلك يرجع إلى استعذاب الكتابة بعينين مغرورقتين بالدموع. والبدوي في مصر ليس صحراوياً خالصاً بسبب وجود نهر النيل، وهو موجود في سيناء ومطروح، وفي شمال الصعيد. بدو شمال الصعيد هم من يعنونني هنا، وهم الذين تحققت فيهم إصلاحات محمد علي باشا في بناء الدولة الحديثة، فباتوا مثل هجينٍ بين البدوي والفلاّح، حتى أن أشعارهم نفسها لا تذكر كلمة «بدوي» بمقدار ما تذكر أنهم «عرب». من هنا جاءت المفارقة، فالبدوي في هذه المنطقة هجر الخيمة وسكن البيوت. هجر الترحال وتملّك الأراضي الزراعية. هذه المفارقة هي ما يشغلني حيال البدو. يرى البعض أن كتابات البدو في مصر تهدد الهوية المصرية؟ - إذا كانت الهوية المصرية العظيمة تُهدد بكتاباتي أنا وميرال الطحاوي ومسعد أبو فجر، فهي هوية هشة ولا تستحق الدفاع عنها، ثم إن الكُتّاب البدو عموماً هم شديدو الالتصاق بالهوية المصرية لدرجة التضحية حتى بالدم. في «لصوص متقاعدون» كانت اللغة أقل انسيابية وأقل مرونة من لغة «الفاعل»؟ - حاولت في «لصوص متقاعدون» أن أكتب الرواية في شكلها المتعارف عليه، أي أن همّي الأول كان كتابة رواية لا الكتابة فقط مثلما كان الأمر في «الفاعل». لم تصدر أعمالاً جديدة منذ 2008، هل تعاني من قلة الإنتاج؟ - طبعاً، وأتمنى أن أكتب كثيراً، ولدي مشروعات تكفي عشرة روائيين، ولكنني دائماً لا أجد اللغة، والأدق النبرة الصالحة للكلام. لما انتهيت من «الفاعل»، ظننتُ أنني وجدتُها، وكنت أقول لأصدقائي: انتظروا رواياتي الجديدة، لكن اتضح أن عليّ أن أبدأ من جديد، وأن كل تجربة لها لغتها ونبرتها وقاموسها الخاص فعلاً. نلاحظ أنك تميل الى كتابة نصوص ملتصقة بالذات وتقارب السيرة الذاتية أحياناً، أين أنت من التخييل؟ - أنا مقتنع بأن النصوص الواقعية والنصوص التخييلية نوعان مختلفان، وعلى رغم قلّة النصوص التي يكتبها الكتّاب حول أنفسهم، فإنها تحظى بقدر وافر من «التلسين» والهجوم من أنصار التخييل. وبمجرد صدور رواية من تلك النوعية الملتصقة بالذات تتعرض هي ومؤلفها لهجوم وتلصق بها اتهامات ومسمّيات مثل «أدب السيرة الذاتية». عموماً أنا واحد من تلك الفئة القليلة التي تكتب عن نفسها، ودافعي هو دهشتي الدائمة مما يدور حولي ومحاولاتي المستمرة للبحث عن قانون له. تمت ترجمة روايتيك إلى لغات عدة، ما مدى رضاك عن تلك الترجمات؟ - أنا محظوظ بالمترجمين الذين أقدموا على ترجمة نصوصي، وأعتقد أن الترجمات التي حظي بها جيلي – أعذرني لاستخدام هذه الكلمة الغامضة – هي التي أعادت الترجمة الغربية إلى الأدب المصري بعد قطيعة طويلة، لكن، للأسف ما زالت تلك الترجمات في دائرة التكاتف أو التعاطف أو النيات الطيبة تجاه الأدب والثقافة العربية عموماً، والمقبلون عليها في الغالب هم مثقفون أوروبيون مناصرون للقضية الفلسطينية ومؤمنون بالقضايا العربية، وهذا للأسف يضع الأدب العربي في ركن ضيق. الأدب العربي ينتظر ذلك التاجر الذي لا يعمل بدافع خيري نضالي ثقافي، بل يتعامل مع الرواية بصفتها سلعة، هذا النوع من الترجمة هو ما يحتاجه الأدب العربي. لك تجربة في الكتابة للطفل، ما الدافع وراء تلك التجربة؟ - أنا سعيد بهذه التجربة، ف- «فرسان زمان» جزء أول من مشروع مشترك بيني وبين الفنان السوداني صلاح المر، أنا أكتب وهو يرسم. هو كتاب لتعريف الأطفال بتراثنا. هل تتفق مع من يرون «القاهرة... شوارع وحكايات»، كتاباً تقليدياً؟ - هذا الكتاب كُتِب بالصدفة، فبصفتي موظفاً من «الأحسن» له العمل بالصحافة لكي يواصل الحياة، طلبوا مني الكتابة في الموضوعات الميتة في عُرف الصحافة، الموضوعات التي يمكن نشرها اليوم وغداً وبعد عام، ومن هنا جاءت فكرة الكتابة عن شوارع القاهرة، بواقع ثلاثة آلاف كلمة للشارع الواحد، ولأنني لا أحب الإنشاء أرهقت نفسي فعلاً في البحث عن المعلومات التاريخية لكل شارع، وعندما بلغت مئة شارع رأيت فيها تاريخ القاهرة في مراحله كافة، وهو موضوع كتب فيه كثيراً، وكل ما أضفته إليه هو وصف الشوارع في حالتها الراهنة. عام 2002 اتهمت مع الروائي إبراهيم أصلان بنشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» للسوري حيدر حيدر، ووصل الأمر ببعض الإسلاميين إلى درجة التحريض على إهدار دمك... كيف ترى هذه المحنة في ظل هيمنة التيارات الدينية؟ - الذي أثار الموضوع وقلب الدنيا علينا هم الاسلاميون، ولكن الذي اتهمنا وأمر بالقبض علينا وسجننا وأفرج عنا بضمان محل إقامتنا هو النظام ممثلاً في جهازه العتيد المسمى النائب العام، وهذا يثبت أن النظام كان الوجه الآخر، والأدق المنافس، للجماعات الإسلامية، ولولا وقفة المثقفين معنا لما انتهى الأمر إلى الإفراج عنا، فقد وقّع أكثر من 750 مثقفاً على بيان يقرون فيه باشتراكهم في المسؤولية على نشر الرواية وهو ما أسقط الاتهامات. هل تشعر بالقلق على الحريات في مصر في ظل حكم «الإخوان»؟ - بالعكس، أنا اتفاءل تماماً وأرى أنه آن الأوان لمواجهة نهائية مع التيارات الظلامية. منذ بداية العصر الحديث ونحن نقدم على هذه المواجهة بقوة، ثم ننكص ونتراجع بقوة أشد. طه حسين قدّم كتابه «في الشعر الجاهلي»، ثم نكص لدرجة أنه اعتذر عن الكتاب وأعاد طبعه منقحاً ومشذباً، وبعدها كتب نجيب محفوظ رواية «أولاد حارتنا»، ثم اعتذر عنها وحرم نشرها في مصر، وبعدها دافعت مع إبراهيم أصلان عن نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» بمنطق مهاجميها نفسه لدرجة أنني قلت في التحقيق إنها تحض على الفضيلة. وأهم أسباب التفاؤل هو أن فعل المنع نفسه - وهو ما يملكه المتطرفون – تجاوزه الزمن، وأي قطعة فنية ستقع عليها المصادرة، سواء كانت كتاباً أو تشكيلاً أو سينما، ستتحول ببساطة إلى منتج عالمي، كما أن الفنون والأفكار العظيمة انتصرت على القمع والمصادرة وانسابت كما النور في عصور الكتابة على الصخر والجلود، فما بالك ونحن في عصر «فايسبوك». نشرت عبر دار «ميريت» القاهرية ودار «الساقي» البيروتية، كيف ترى سوق النشر وآلياته في التجربتين؟ - المقارنة جائرة وغير موضوعية، لأنني لا أتعامل مع «ميريت» بصفتها ناشراً، بل بصفتها جماعة أدبية ومنتدى للمثقفين أو «جماعة أدباء وفنانين من أجل التغيير»، وأنا مؤمن بهذا الدور جداً. في حين أن «الساقي» هي دار نشر محترفة، هدفها زيادة توزيع الكتاب. انتخبت أخيراً رئيساً لمجلس تحرير مجلة «الثقافة الجديدة»، ماذا ستقدم لها وكيف ترى تواضع المجلات الثقافية المصرية أمام المجلات الثقافية العربية؟ - «الثقافة الجديدة» هي مجلة مصر، ليس العاصمة والأقاليم، ولكن مصر من أقصاها الى أقصاها، من نجيب محفوظ حتى أصغر كاتب في أبعد نجع. هي أساساً مجلة «الثقافة الجماهيرية»، ذلك الجهاز الثقافي الضخم الذي يملك مئات المقار والمكتبات ونوادي الأدب والمسرح والفنون التشكيلية والفرق المسرحية والشعبية وقاعات العرض السينمائي في شتى أنحاء مصر، وكل المحاولات التي بذلت لزحزحتها عن هذا الدور والنهج - بما فيها المحاولة التي شاركتُ فيها شخصياً حينما كنت سكرتيراً لتحريرها في التسعينات من القرن الماضي - باءت بالفشل وأنتجت في بعض الفترات مجلة مهجنة، لا عبرت عن الواقع الثقافي العربي ولا عن الواقع الثقافي المصري.