وما الحربُ إلاّ ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجّم (زهير بن أبي سلمى) انتظار الحرب أقسى من وقوعها. الانتظار المعطوف على ذاكرة ملأى بالجراح والثقوب والصور المرعبة. أصعب الانتظارات ذاك المتعلق بأمر حاصل فعلاً، تنتظره وأنت في خضمه، تعيشه موهماً نفسك أنه لم يقع بعد. فهل أقسى من انتظار وقوع الحرب وعيشها في الوقت عينه؟ كل ما يحدث الآن حدث من قبل عمليات الخطف، القنص، حرق الدواليب، قطع الطرقات، الاغتيال، القتل المعلوم والقتل المجهول واختلاط ملامح القاتل بملامح القتيل، كلاهما مقتول، ميتٌ تحت التراب وميتٌ فوقه. كنا فتية صغاراً يوم بدأت الحرب اللبنانية. قلْ يوم بدأت رسمياً. ليس العام 1975 من القرن المنصرم سوى سنة تعارفَ اللبنانيون على أنها بداية لحروبهم المشؤومة. حروبهم القاتلة سابقة على ذلك بكثير، أحياناً كانت تأخذ شكل المناوشات وأحياناً تغدو مجازر مشهودة. اللبنانيون شطّار في تسمية الأمور بغير مسمياتها. أسهل شيء لإراحة النفس والضمير وغسل اليدين من دم الصدّيق مقولة «حروب الآخرين» على أرضنا، كأننا لم نكن القاتل والمقتول في آن. مَشاهدُ الحاضر تُحيلنا فوراً على الماضي. مجازاً نسميه ماضياً، هو لم يمض أبداً، بقي حاضراً في النفوس والنصوص التي يسمونها ميثاقاً وطنياً. ميثاق قابل للخرق كل يوم من جميع الجهات والاتجاهات. نتذابح، نتقاتل وندمر مرة تلو أخرى كل ما بنيناه، ثم نسهر ونرقص ونغني في مرابع أثرياء الحروب وأمرائها: راجع راجع يتعمر راجع لبنان (رحم الله زكي ناصيف). يُقال، في الحرب على رغم بشاعتها تزداد الحاجة الى الآخر، حتى الآخر الذي نقاتله نحتاجه ويحتاجنا. اذا انتفى الآخر مَن نقاتل؟ حين استنفدت الحروب السابقة غاياتها وجدواها انقلب كل «آخر» على نفسه وتذابحت الطوائف في ما بينها، قاتل اللبنانيون ذواتهم حتى هلكوا أو كادوا، ثم انطلقت صفارة «الخارج» بضرورة اعلان انتهاء الحرب رسمياً باتفاق هشّ ملتبس سميَّ اتفاق الطائف، والأصح أنه كان اتفاق الطوائف التي افترست سلماً ما لم تقوَ عليه حرباً. بقي من الدولة هيكلها العظمي، بقيت الكلاب المسعورة تنبح. لا يستطيع اللبناني رؤية مواطنه اللبناني الآخر إلاّ من المنظار الطائفي والمذهبي، يبادرك فوراً: من وين أنت؟ ومُضمَر السؤال: ما هي ديانتك (بحكم التوزيع الديموغرافي). يراكَ انطلاقاً من تلك الصفة في خانة الهوية. لا يستطيع رؤيتك انساناً وحسب، لا يتعاطى معك بناءً على كفاءتك أو طريقة تفكيرك أو نظرتك الى الوجود والكائنات. الفاسد من الطائفة نفسها «أفضل» ألف مرة من أشرف شريف في الطائفة الأخرى، والأزعر من المذهب نفسه «أقرب» من أكبر آدمي من المذهب الآخر. زعران الطوائف ومفسدوها حاجة ملحة وضرورية ساعة يدق النفير! قد لا يكون اللبناني مفطوراً على الطائفية المدمرة و«الهويات القاتلة». مثله مثل أي كائن بشري قابل للخير وقابل للشر، لكن ضراوة الخطاب السياسي والاعلامي المؤدلج الذي تمارسه طبقة فاسدة مفسدة منقسمة على نفسها دائماً، تغسل العقول وتعمي القلوب وتُزين للبنانيين القتال ضد بعضهم بعضاً. قل ضد أنفسهم وضد دولتهم التي لن يجدوا بديلاً منها مهما «استعاروا» دولاً أخرى يظنونها مربط خيلهم وهي في الحقيقة مربط موتهم وخراب وطنهم الصغير الذي جعلوه فناء خلفياً لكل قاذورات الاقليم. مذ ولدنا ونحن نحيا بصحبة الموت، يرافقنا في صباحاتنا ومساءاتنا، في ذهابنا وفي ايابنا. لم تغادرنا الحرب لحظة حتى تبدأ من جديد، الحرب في دواخلنا وليست خارجها. جلُّ ما في الأمر أنها تغير شكلها وإيقاعها بين الفينة والأخرى. لا تخافوا، لن تقع الحرب مجدداً لأنها مستمرة، لعلها لم تتوقف يوماً.