يرى الآلاف من اللبنانيين أن القدر خانهم بعدما عاصروا عشرات الحروب التي مرت عليهم في سنوات قصيرة. وهم يهجسون اليوم بعودة الحرب من الخارج أو الداخل. فعل ورد فعل سياسي، تليهما تصريحات نارية من أقطاب متناحرين مع تقسيم الأدوار وكأن كل سياسي من هذا الطرف موكلاً الرد على سياسي معين من الطرف الآخر. نبض الشارع يرتبط مباشرة بالتصريحات السياسية، ويمكن لمس التشنج والخوف عند اللبنانيين بُعيد صدور تصريح معين أو في انتظار موقف ما. وها هو اللبناني يجد نفسه مرة أخرى أمام هاجس حرب محتملة من دون أن يطمئن إلى تصريحات تندد بالفتنة وتعد بالحفاظ على السلم. هنا بعض مما يعيشه اللبنانيون اليوم على وقع شعورهم بأن الفتنة على الأبواب: «اشتباك فردي»، لا يلبث أن يمتد ساعات طويلة وبالتالي مع سماع الرشقات الأولى، من المستحسن أن تذهب إلى منزلك فالاحتمالات تنفتح على وابل من الخيارات، البسيط منها مستبعد. ومن الأفضل اتباع الإرشادات الآتية: أولاً - حدد مكان الاشتباك، وأطرافه. حتماً سيكونون من طائفتين مختلفتين وإن صودف أن كانوا من الطائفة نفسها، فهما من خطين سياسيين مختلفين. في مختلف الأحوال، حدد خريطة طريقك قبل أن تتحرك. ثانيًا - ارسم الطريق الأكثر أماناً، فقد يضطر ابن عم أحد الأفراد المتورطين في الاشتباك الفردي الأول من الاقتصاص من ابن خالة المشتبك معه، في منطقة تبعد كيلومترات عن مكان الاشتباك الأول. ولذلك يُنصح باختيار المناطق غير المختلطة، وهي كثيرة في لبنان. فمن مزايا الاشتباكات الفردية في بدايتها أنها لن تورطك بحاجز يطلب بطاقة هويتك لاكتشاف انتمائك الطائفي أو المذهبي، لذلك اختر الطريق الأسرع وتحرك إلى منزلك ما دام الأمر ممكناً. الموضوع ليس تهويلاً، إنه ما يحدث بين حين وآخر في لبنان. فقد شكّل 14 شباط (فبراير) 2005 يوم اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، نقطة مفصلية في تاريخ لبنان المعاصر. تتالت، بعد ذلك، التواريخ حتى عبقت روزنامة اللبناني بمجموعة من الاحتفالات... إحياء ذكرى الاستشهادات تترأس القائمة، يليها الفرز الجذري بين ما يسمى بال 8 وال14 الآذاريين. ومن ثم الحرب الاسرائيلية على لبنان المعروفة ب «حرب تموز»، وذكرى ما اختلف على تسميته اللبنانيون «انتصاراً» أو «وقف العمليات العسكرية حتى إشعار آخر». فالاعتصام الطويل، ف7 أيار (مايو) 2008 كيوم يندرج ضمن ما يحب اللبنانيون تصنيفه ب «ينذكر ما ينعاد»، على شاكلة الحرب الأهلية اللبنانية، وصولاً إلى ما حدث في مطار بيروت الدولي من «انتصار للحق في وجه شهود الزور»، وقبله أحداث «مار مخايل»، فضلاً عن أحداث التبانة – جبل محسن، ونهر البارد، وبعض الاشتباكات «العائلية» و «الفردية» الطابع وما سبقها من أحداث برج أبي حيدر في24 آب (اغسطس) الماضي، تواريخ عابقة بذكريات أحلاها مر. يتناقلها اللبنانيون على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ومواقعهم وأعمارهم. فاللبناني المعروف ب «شطارته»، هو محلل سياسي من الدرجة الأولى، وخير مطبّق للذاكرة الإنسانية الانتقائية، فهو مع كل أزمة سياسية أو أمنية، قادر على استعادة كل أخطاء الطرف الآخر من دون استثناء. البلد مقسوم؟ سؤال يطرح من دون انتظار رد واضح، إذ إن الواقع على الأرض يوحي أخطر من ذلك بكثير. هي قسمة باتت متجذرة تحت غطاء ما يُسمى ب «الوحدة الوطنية»، متسلحة بقاعدة أن لبنان لا يحكم من طرف واحد. معادلات عرفية تكرّست مع مرور الزمن في ذهن الشعب اللبناني، حتى استسلم لواقع إنتاج الطبقات السياسية نفسها لأجيال، من دون أن يبدي رغبة حقيقية في التغيير. والسيناريو بات معروفاً كفيلم يستعاد مرارًا للأبطال أنفسهم من سياسيين، وللمخرجين والمنتجين أنفسهم من زعماء، مع تغيير العنوان، ولأداء الأدوار ما بين الفريق الواحد. يفتح الستار على مشهد عام، ومن ثم تدخل الكاميرا مسلطة الضوء على مشهد أكثر تخصصاً، قد يكون شبكة اتصالات غير سلكية، أو محكمة دولية، أو سلاحاً مختلَفاً على شرعيته، أو طاولة حوار «أطرش»، أو شهود زور، وظالم ومظلوم... وتنطلق التصريحات النارية واضعة أمام المواطن اللبناني، الذي يؤدي دور المشاهد، خيارات: التشنج والتمترس والانقضاض. ولأننا نعيش في زمن التكنولوجيا التفاعلية على شاكلة الثلاثية الأبعاد، إضافة إلى البرامج الواقعية، يجد المشاهد نفسه في خضم المعركة التي تبدأ كلامية من دون أن يتمكن من التكهن بالنهاية. المسلسل اللبناني الطويل تفوّق على مختلف أنواع المسلسلات المدبلجة، من خلال عدد حلقاته التي لا تنتهي، وشدّة رتابته، إضافة إلى أحداثه الدرامية المتكررة. أبطاله من السياسيين هم القادرون فحسب على الضحك وتغيير مواقفهم بين يوم وآخر، غير آبهين بالجمهور التفاعلي من حولهم. الجمهور الذي بات أكثر تعطشاً إلى فصول أكثر إثارة ذات حلول جذرية وإن كانت دموية، ما يدفع ب «البطل» إلى محاولة إشباع رغباته من خلال التطرف المتصاعد. هو اللبناني يقف دور المتفرج المتفاعل، والخائف في كثير من الأحيان. التواريخ المفصلية في لبنان مبنية على الاصطفافات الطائفية، يحاول الأفرقاء المعنيون تحويلها انقساماً سياسياً من دون جدوى، فالخطابات المتفلتة من كل الجهات تؤكد ذلك. «حرب تموز» أدخلت شريحة كبيرة من اللبنانيين في مفهوم أن الطرف الآخر كان يتمنى التخلص منهم عبر إسرائيل، أي محاولة للنقاش أو للتفسير لن تجدي نفعاً. آراء ممثلي الشعب تتكرر في الزواريب والحارات والشوارع الضيقة منها والعريضة، «لم تنتصر إسرائيل في الحرب، لن ندعها تنتصر في السياسة»، المحكمة الدولية وقرارها الظني الذي «يسعى إلى اتهام عناصر من حزب الله»، مسيّسان ولن يمرا مرور الكرام. «يريدوننا خارج البلد، يعدّوننا أقل منهم، ونحن أفضل بكثير منهم، قاومنا، ضحينا ونحاول الحفاظ على وحدة البلد وصيانتها في وجه إسرائيل»،. وهم جاهزون تماماً للدفاع عن صورتهم، إما بإبراز وجههم الحضاري والثقافي، وإمّا بإثبات قدرتهم على الوقوف في وجه أي يد تتطاول على «سلاح المقاومة». فال «14 آذاريون يجب تلقينهم درساً لأنهم لا يتعلمون بسهولة». هذه القدرة بالذات، تتحرك في شكل متوازٍ مع شعور لدى الأطراف الآخرين، وإن كان هؤلاء لا يختلفون عن أقرانهم من الطوائف الأخرى في الترداد الببغائي للشعارات السياسية، مع شعور مبطن ب «الانكسار»، هم الذين ينتظرون الفرصة الأمثل من أجل الاقتصاص مما حدث في 7 أيار (مايو)، في حين يرى المراقبون في أحداث برج أبي حيدر «الفردية»، لمحة عمّا قد يحدث. ف «المحور السوري – الإيراني لا بد من أن ينكسر أمام إرادة الشعب اللبناني الذي يريد الحرية والاستقلال». الخطاب الذي كان يتطعم في مرحلة سابقة بأهمية الحفاظ على دور لبنان العروبي، وأن اللبناني لن يتخلى عن دوره في الصراع العربي - الإسرائيلي على مستوى العامة من الناس، بات أقرب إلى اليأس وكثيراً ما يتردد شعار «كنّا مع سلاح المقاومة، وإذ به يرتد علينا، هل شوارع بيروت كريات شمونة»، في إشارة إلى المستوطنة الإسرائيلية في فلسطينالمحتلة. التشنج تعدى نظرية «الخط الأحمر»، ووصل إلى مرحلة أكثر تقدماً. السياسيون ما زالوا قادرين على الالتقاء تحت سقف واحد حتى اليوم، وإن لإنتاج حوار عقيم، أو للضرب بعرض الحائط ما بقي من خطوط عريضة لقاعدة مشتركة. إلّا أن الحال في الشارع اللبناني باتت أخطر من أن تتم لملمتها: الاحتقان الطائفي في تصاعد، المتاريس النفسية بين أبناء البلد الواحد تعلو، الشعب بات شعوباً لبنانية، لكل منها خصوصية غير قادرة على التأقلم مع الآخر، الكلام بين أبناء الطائفة الواحدة يتخلله كثير من التهديد والوعيد والكلام على التسلح والاستعداد للمواجهة، وهو كلام لا يحد منه إلّا دخيل من طائفة أخرى ولو كان من أقرب الأصدقاء وأعزّهم، النقاشات الشبابية منها وحتى الغرامية تنطبع بكثير من التشنج إذا ما وجد طرف أكثر ولاء لطائفته من الآخر. ومحاولة التحذير من الفتنة، والإنكار أن الشارع في حال احتقان خطيرة لن يجديا نفعاً. فاللبنانيون في حال حرب غير معلنة. قلة قليلة منهم تتخذ موقف الحياد، وتحاول التحرك في الوقت الضائع والسخرية من الواقع، في وقت تشعر أنها الأكثر تضرراً في حال وقوع أي حرب طائفية. ويضع بعضهم خططاً بديلة ساخرة، في حال تسارع الأحداث، كدعابة قالتها شابة لزوجها قبل توجهها إلى العمل: «إذا حصل شيء خطير، كل منّا يلتحق بطائفة ذويه»، قبل أن يحذرها من أنها في وضع حرج جداً، إذ إنها تصنّف مرتدة في طائفتها، وفي الوقت نفسه مرفوضة من الطائفة الثانية. يحاول «المحايدون» رفع الصوت بالإمكانات المتاحة كافة، ومنها الفايسبوك، فيسعون إلى البعث برسائل مباشرة، وأخرى مبطنة عن خطورة الواقع، إلّا أن الانقسام يبدو جلياً هناك أيضاً، إذ تجهض محاولاتهم بحرب كلامية، يُعتمد فيها منطق التخوين، والعمالة للخارج الإيراني أو الأميركي، وصولاً إلى المطالبة بضرورة تأديب الطرف الآخر. الكلام على توزيع السلاح على المنازل، في الطريق الجديدة والضاحية الجنوبية، أمر يكرره أبناء المنطقتين متباهين بأنهم سيكونون على استعداد شديد هذه المرة، في ظل فورة ورغبة شبابيتين في اختبار الحرب وحال التفلت التي ترافقها، غير آبهين بآراء ذويهم الذين ذاقوا لوعة الحرب، ويرون أن الحياة خانتهم وتخونهم يومياً بسبب عدم القدرة على الخروج من أتون الحروب المعلنة والمضمرة في لبنان. تباهٍ غير قابل للتحقق، أو على الأقل لمعرفة هل يتم في شكل منظم، خصوصاً أن رؤية سلاح في منزل ما باتت أمراً عادياً، إذ إن الاشتباكات بالأسلحة «الفردية» التي تقع، تستخدم فيها ال «آر بي جي»، وأنواع مختلفة من الرشاشات. هي الخلافات «الفردية»، والسلاح «الفردي» ما يحافظ حتى الآن على «فردية» الأحداث. أحداث يستبعد المراقبون أن تحافظ على فرديتها وقتاً طويلاً، خصوصاً في ظل التصاعد غير المتناهي للخطاب السياسي من مختلف الأطراف. إسقاطات كلامية، وعبارات متبادلة مع تغيير المعنيين، تتكرر بين الأفرقاء المختلفين، بات من الصعب التكهن بسقفها، والسؤال الوحيد من المسؤول عن لملمة الخطاب السياسي وتشذيبه، وهو الذي وصل إلى مراحل غير مسبوقة حتى قبيل السابع من أيار (مايو)؟ سيناريوات متعددة ترتسم أمام اللبناني، أحلاها مر، هو المواطن الذي يخرج من منزله من دون أن يضمن عودته بسبب ما قد يتولد في شكل غير معلن عن تحرك هنا أو هناك. حرب بين «الشرعية» و «الميليشوية»، حرب بين «دولة المؤسسات» و «دولة الارتهان»، حرب بين «حب الحياة» و «ثقافة الموت»، حرب بين «نصرة المظلوم» و «الحقيقة»، حرب بين «لبنان» و «إسرائيل»، حرب بين «السّنّة» و «الشيعة»... تتعدد التسميات والحرب تبقى المشتركة... مقبلة أم مؤجلة أم قائمة؟ هي الأسئلة التي تطرح، وإن كانت «التعبئة العامة» تظهر في صفوف أبناء الطائفتين السنية والشيعية، فهذا لا يعني أن أطراف الطوائف الأخرى على حياد. فهم في ترقب في انتظار الساعة «الصفر»، للانقضاض أو اتخاذ الموقف المناسب. وفي وقت يلتزم الشارع الدرزي إلى حد كبير خيارات النائب وليد جنبلاط، استطاع المسيحيون حتى الآن، تحييد مناطقهم عن الاحتكاكات الدموية والاشتباكات، وبقيت محصورة جداً إن حصلت. هو التمييز الذي يحول دون إشعال البلد بأكمله. تحييد لا يعوّل عليه كثيراً، إذ إن المخاوف من اللحاق بالحلفاء من الأطراف الآخرين تبقى خطراً قائماً. حتى الآن يعيش الشارع المسيحي على المستوى الشعبي، حالاً من الترقب، مع الاقتناع بأن أي حرب سنّيّة - شيعية ستنعكس خراباً على البلد بأجمعه، من دون أن يخفي هؤلاء قلقهم من الخطاب السياسي المتصاعد. ويتساءل مناصرون للتيار الوطني الحر عن جدوى ما يقوم به حزب الله من تصعيد مستمر. ويؤكد أحدهم أن هناك شعوراً في الأوساط المسيحية المناصرة للجنرال ميشال عون «إن حزب الله لا يساعد الجنرال ولا يراعي خصوصية موقفه في الشارع المسيحي». ويرى أن «تحالف حزب الله – عون اقتناع مترسخ لدى الأخير»، من دون أن يخفي تخوفه من الخطاب التصعيدي الذي يعده الشارع المسيحي خطراً جداً وهو ما سيؤثر أكثر في شعبية عون، ناظراً إلى الشارع اللبناني وقد بات أكثر تعاطفاً مع التعصب الأعمى والاصطفافات الأكثر تطرفاً. لبنانيون كثر يستعدون للحرب التي يرونها قاب قوسين أو أدنى، وتحتل الحرب الإسرائيلية الدرجة الثانية من مخاوفهم هذه الأيام، لأنهم منشغلون بمخاوفهم الداخلية، مع احتمال أن تطفو على السطح في أي لحظة. تحليلات كثيرة متعمقة تجرى في محاولة تبدو عقيمة لفهم الواقع اللبناني وما قد تؤول إليه الأمور في أي لحظة، وكثيراً ما تنتهي هذه التحليلات إلى استعادة تلقائية لما يحدث من دون استخلاص النتائج. ويطفو شبه إجماع على ان في وقت يعد حزب الله القادر الأبرز على تحريك الأمور إلى الناحية التي يريد، سلبية كانت أم إيجابية، يحاول رئيس الحكومة سعد الحريري الحفاظ على ما تبقى من ركائز للشارع السّنّي خوفاً من تداعيه في حال تقديم المزيد من «التنازلات».