بينما كان العالم يشاهد برعب كبير حجم الدمار الهائل الذي انصب على أهلنا في غزة خلال الأسابيع الماضية، تركزت جهوده على توفير الإغاثة الإنسانية والسعي إلى وقف إطلاق النار غير المشروط. أما في المتحف الفلسطيني، فوجدنا أنفسنا في حالة من الخدر والشعور بالعجز في وجه هذه المذبحة، وصبّت المؤسسة كل طاقاتها في الإغاثة الطارئة، إلا أن دورنا كمؤسسة ثقافية كان أقل وضوحاً. تساءل فريق عمل المتحف عما يمكن أن يقوم به، وماهية دوره في هذه المرحلة الحرجة. يسعى المتحف إلى رواية التاريخ الفلسطيني، كوسيلة في حفظ جزء من الذاكرة الوطنية الجمعية. ومع الأسف، فإن الرواية الفلسطينية تزخر بالأمثلة على محاولات الإبادة الاجتماعية والثقافية ضد شعبنا، خلال ال 65 عاماً الأخيرة، ابتداء من نكبة عام 1948 واحتلال القدسالشرقيةوالضفة الغربية وقطاع غزة، وحرب لبنان عام 1982، والقمع الوحشي لانتفاضتين شعبيتين. كل هذا مع استمرار المصادرة الإسرائيلية لأرضنا ومواردنا المائية، وبناء المستوطنات غير المشروع على أراضي الضفة الغربية، وبناء جدار الفصل العنصري، وإقامة الحواجز العسكرية على امتداد أرضنا، وثلاث حروب على قطاع غزة منذ عام 2008. والسؤال هو: هل من الممكن أن يكون درس هذه الجرائم التاريخية وتوثيقها ضماناً لئلا تحدث مجدداً؟ وإذا كان هذا غير ممكن، فلماذا نتكبد عناء بناء متحف يسجل هذه الجرائم ويوثق لها؟ إحدى الإجابات الممكنة تكمن في مفهوم الصمود الذي أثر بعمق في الخطاب الثقافي والسياسي الفلسطيني، ويعدُّ مبرراً رئيساً لوجود المتحف الفلسطيني. منطق هذا المفهوم ينبع من أننا، كفلسطينيين، علينا الاستمرار في بناء حياتنا ومؤسساتنا، في مواجهة الجبروت الإسرائيلي وعلى الرغم منه. هذا هو الشكل الأبسط والأكثر حيوية وفاعلية من أشكال المقاومة، وهو طريقة لتأكيد وجودنا المادي وحضورنا الثقافي. وجزء مهم من عملية المقاومة هذه يكمن في الحفاظ على ذاكرة الماضي، لا سيما توثيق الظلم الذي ارتكب ضد شعبنا. إن ما شهدناه في الأسابيع الأخيرة يؤكد أن هذا الجهد لا يمكنه القضاء على إمكان تكرار محاولات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والتي قد تشكل جزءاً من مخططات، أو على الأقل من لاوعي مفكري الحركة الصهيونية، إذ إنها واجهت حتى اليوم فشلاً ذريعاً في إفراغ فلسطين التاريخية من سكانها العرب، ولكنها، في الوقت ذاته، ترفض رفضاً قاطعاً أن تعترف بحقوقهم في إطار سلام عادل وشامل. ويمكن أن نرى في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وفي الدعوات الصريحة التي رافقتها لسياسيين إسرائيليين بارزين، أنها قد تكون نوعاً من البروفة لسيناريو كهذا. وبالطبع، فإن هذا ليس أمراً يمكن المتحف الفلسطيني منعه، وكل ما يمكنه القيام به هو رفع مستوى الوعي بين الفلسطينيين والعالم، بأن ما حدث خلال نكبة عام 1948 يمكن أن يحدث مرة أخرى، وهذه المرة على نطاق كارثي أوسع. على المتحف أيضاً أن يوفر منصة لنا نحن الفلسطينيين، لنتمكن من خلالها من التفكير ملياً في مسؤولياتنا كشعب تجاه أحداث الماضي والمستقبل، وبعد كل هذا، النظر في الأسباب التي جعلت الماضي يؤول إلى ما آل إليه، وما اذا كان علينا أو ما يجب علينا الآن القيام به لتغيير واقعنا. هذه الأسئلة يود كل متحف مختص بالتاريخ والثقافة أن يطرحها زواره على أنفسهم، وهي مهمة لأنها تتمتع بقوة تمكينية: فهي تذكرنا بأننا لسنا مجرد ضحايا للتاريخ، ولكننا أدواته أيضاً، وهكذا في إمكان المتاحف أن تشكل مبعثاً للأمل. وفي حالتنا نحن الشعب الفلسطيني، فإننا ما زلنا هنا، سواء في الوطن أو المنفى، وما زلنا مستمرين في إسماع صوتنا وحشد الدعم والتأييد لقضيتنا. ولكن، في حين أن مسؤولية المتحف الفلسطيني الأولى تكمن في أن يكون شاهداً على الانتهاك الأخلاقي في حرب غزة، وفي تكريم شهدائها، إلا أنه لا يمكن أن يتجاهل مهمته الأكثر تعقيداً وأهمية، والتي تتمثل في تحليل هذه الأحداث، والتساؤل حولها، والسعي في نهاية المطاف إلى فهم أسباب حدوث الكارثة. علينا أن نتساءل عما يجب القيام به لمنعها، ولماذا لم نتمكن من ذلك. فمن الضروري جداً توثيق جرائم الماضي والحاضر، ولكن الأهم أن نتساءل كيف يمكن مجتمعاً أن يقاوم محاولات القضاء عليه وأن يمنع الكوارث عن نفسه، ليبني مستقبلاً عادلاً وآمناً لمواطنيه، وهذه حتماً هي المهمة الأصعب، والتي تواجه كل المؤسسات الثقافية التي تعمل في خدمة شعب مهدد بالإبادة الجماعية. * عضو في مؤسسة التعاون، رئيس فريق عمل المتحف الفلسطيني