شهد المؤتمر ال19 للرابطة الدولية للإعلام الذي عقد أخيراً في مدينة دوربان (جنوب إفريقيا)، حوارات ومناقشات كثيرة عن «ثورة يناير» المصرية. شارك الوفد المصري بأوراق بحثية متميزة عن الثورة وصورة الإسلام في الإعلام الغربي واقتصادات الإعلام العربي وصورة المرأة العربية في الإعلام الغربي. وعلى رغم تزايد أعداد المشاركين العرب في الأنشطة العلمية للمؤتمر، إلا أن الجمعية العمومية للرابطة لم تساند الاقتراح الذي قدَّمته عن ضرورة إدراج اللغة العربية بين اللغات المستخدمة في الرابطة والتي تنحصر في الإنكليزية والفرنسية، ثم أضيفت إليهما الإسبانية. كانت هذه زيارتي السابعة لجنوب إفريقيا والثانية لدوربان التي لم تتح لنا ظروفها (بسبب انعدام الأمن) أن نستمتع بالتجول في أنحائها أو التواصل مع أهلها من الأفارقة وغيرهم، فضلاً عن كثافة البرامج والجلسات التي ازدحم بها المؤتمر وكان عنوانه «الحوارات بين الشمال والجنوب». وتتميز دوربان بتعدد الأجناس من أفارقة وأوروبيين وآسيويين وتتحول هذه المدينة إلى نجمة كبيرة مضيئة في المساء ولكن تخلو شوارعها من المارة عكس القاهرة . تميز المؤتمر بدقة التنظيم وصرامة المواعيد وصعوبة التنقل داخل مباني جامعة ناتال زولو التي عقد بها المؤتمر، علاوة على غلاء أسعار الكتب في المعرض الذي أقيم على هامش المؤتمر. وكان إصرار الناشرين على قبول العملة المحلية (الراند) ورفض العملات الأجنبية أمراً مثيراً للإعجاب والتقدير بسبب انتهاج الحكومة الوطنية في جنوب إفريقيا لسياسة نقدية حكيمة تستهدف تثبيت قيمة العملة الوطنية في مواجهة العملات الأجنبية. شغلت «ثورة يناير» المصرية بؤرة الاهتمام في الحوارات التي دارت مع الرفاق من الباحثين الأفارقة والأجانب. كانت المقارنة دائماً بين انتفاضات شعب جنوب إفريقيا وانتفاضة «ميدان التحرير» في وسط القاهرة التي اعتبرها الكثيرون خطوة مهمة على طريق التغيير الشامل، ليس في مصر فحسب، بل في إفريقيا والعالم العربي. أثار انتباهي ذلك الزخم الذي اتسم به نشاط الباحثين الشبان والشيوخ من ذوي التوجهات الإسلامية والذي تجسد في إقبالهم على الجلسات المخصصة لمناقشة مستقبل التيارات الإسلامية ودورها في الثورات العربية. وقد استضافتني مع زميل سوداني إذاعة الأنصار التي تديرها الجماعة الإسلامية في دوربان حيث تم إجراء حوارات حول الإعلام المصري بعد ثورة يناير ودور قناة «الجزيرة» في بث أحداث الثورة. وتدير هذه الإذاعة نخبة متميزة من الإسلاميين والإسلاميات المنحدرين من أصول هندية. في إطار احتفال المؤتمر بعيد ميلاد نيلسون مانديلا الرابع والتسعين دارت المناقشات والحوارات حول الدور الذي قام به مانديلا ورفاقه في حزب المؤتمر الإفريقي من أجل إنهاء الحكم العنصري واستعادة الحقوق الوطنية المشروعة لشعب جنوب إفريقيا. أجمع فريق الباحثين الذين أحاطوا بنا في احدى الحدائق الصغيرة في جامعة الناتال على أن مانديلا قد أدار مفاوضات الاستقلال بصبر وحكمة غير مسبوقة في تاريخ الثورات الوطنية ولكن الصعوبة الأكبر التي واجهته كانت مع رفاق نضاله في حزب المؤتمر الإفريقي والذين شكلوا تياراً للمعارضة ولكن استطاع مانديلا بعمق بصيرته ورؤيته المستقبلية أن يقنعهم بوجهة نظره مؤكداً ضرورة طي صفحة الصراعات الدموية التي استمرت أكثر من 350 عاماً بين شعب جنوب إفريقيا من الأفارقة وبين محتكري النفوذ السياسي والاقتصادي من البيض، إذ تعد الخطوة الأولى الحاسمة لنقل السلطة إلى الأفارقة كي تصبح جنوب إفريقيا وطناً لجميع سكانها، وكي يتاح للأفارقة أن يشاركوا في صنع القرارات الوطنية ويواصلوا نضالهم السلمي من أجل الحصول على سائر حقوقهم في الصحة والتعليم والمشاركة السياسية. هنا انبرى أحد المثقفين الإسلاميين المنحدرين من أصل هندي قائلاً: إن موقف مانديلا يذكرنا بموقف الرسول محمد (صلّى الله عليه وسلم) عندما عاد من موقعة «أُحد» وأدلى بقولته الشهيرة: «لقد عدنا من الجهاد الأصغر كي نواجه الجهاد الأكبر»، وكان يقصد جهاد النفس الأمّارة بالسوء، ثم استكمل الحوار البروفسور توماسيلي رئيس مركز الدراسات الثقافية عضو حزب المؤتمر الإفريقي على رغم انتمائه الى الأقلية البيضاء، وقال: «إن التغيير لا يتحقق من جولة واحدة، بل يحتاج إلى جولات متوالية تختلف أساليبها وآليات تحقيقها باختلاف الظروف والأحوال». انتحيت جانباً مع مجموعة من علماء الاجتماع القادمين من مختلف انحاء القارة الإفريقية واستمر الجدل والحوار الذي تركز على المقارنة بين ثورات «الربيع العربي» التي يعتبرها الأفارقة انتفاضات ستمهد لثورات مقبلة وانتفاضة سويتو التي اندلعت عام 1976 وكانت الشرارة الأولى التي أنذرت العالم بانتقال زمام الثورة إلى أيدي الجماهير متجاوزة القيادات التقليدية. يرى معظم العلماء الأفارقة أن انتفاضة ميدان التحرير أنعشت آمال المعارضة الإفريقية وأثارت مخاوف الحكومات الإفريقية... وخلافاً للمراقبين الأوروبيين الذين اعتبروا انتفاضة ميدان التحرير امتداداً للثورات في شرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، يضع البروفسور مامداني هذه الانتفاضة في سياق مختلف عن السياق الأوروبي إذ يقارنها بانتفاضة سويتو في جنوب إفريقيا (1976) والتي شكلت نقطة تحول أساسية في نضال شعب جنوب إفريقيا. ففي عام 1973 بدأت إضرابات تلقائية في مدينة دوربان كانت الشرارة التي قادت إلى تشكيل النقابات، ويمثل هذان الحدثان، انتفاضة سويتو وإضرابات العمال في دوربان، بداية التحول في النضال ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا. لقد غيرت سويتو المسار النضالي ضد العنصرية البيضاء في جنوب إفريقيا حيث أبرزت قدرة الجماهير على الامساك بزمام النضال متجاوزة دور النخب السياسية. ومن هنا بدأ التحول في الفكر النضالي وأساليبه، ما أتاح الفرصة لمشاركة أعداد غفيرة من الجماهير. لقد قسم النظام العنصري الأبيض شعب جنوب إفريقيا إلى ثلاث فئات، بيض وسود وملونين، كما قسمهم إلى قبائل زولو وفندا وبيدي وأكهوسا ولكل منهم قوانين تحكمهم وتحول دون توحّدهم في مواجهة الحكم العنصري. في هذا السياق ظهرت قيادة جديدة تمثلت في المناضل ستيف بيكو الذي تزعّم حركة الوعي الأسود وأكد أن اللون الأسود ليس سوى غطاء يغلف حالة القهر والاضطهاد التي يعاني منها السود والبيض في جنوب إفريقيا. فالقهر وحده، وليس اللون أو الانتماء الديني أو السياسي هو الذي يوحد الجماهير، وأن إدراك ذلك لدى الجماهير كفيل بأن ينقل حركتها إلى مستوى الفعل الثوري في مواجهة القهر بل وينهي مرحلة اعتمادها على النخب السياسية التقليدية. وكانت هذه هي الرسالة الثورية التي حمل مسؤوليتها حزب المؤتمر الإفريقي وأعلنها في ميثاق الحرية عام 1955 وفتحت الباب لانضمام جميع المضطهدين في جنوب إفريقيا وأزالت الحواجز الوهمية بين السكان التي أرساها النظام العنصري. ويواصل مامداني حديثه قائلاً: «في عام 1978 أضافت انتفاضة الحجارة الفلسطينية رافداً جديداً الى المبادرة الثورية التي ارستها انتفاضة سويتو حيث قام الشباب الفلسطيني بترسيخ فكرة العنف الثوري امتداداً لما بدأه أطفال سويتو إذ واجهوا بالحجارة رصاص المحتلين الصهاينة وأعلنوا تمثيلهم للشعب المقهور». وقد جاءت انتفاضة ميدان التحرير بعد ثلاثة عقود من انتفاضة سويتو، فأنعشت الذاكرة الوطنية وجسدت هذه الحقيقة. كما أكدت قدرة الأجيال الجديدة على مواجهة الاستبداد وانتهاج العنف كأسلوب للنضال. التقطت الخيط احدى الشابات الإفريقيات. قالت إن أبرز أوجه التشابه بين انتفاضتي سويتو وميدان التحرير يتعلق بقضية وحدة الجماهير في مواجهة القهر. فقد أزالت سويتو الحواجز التي أرساها النظام العنصري بين جماهير جنوب إفريقيا وهو ما فعلته انتفاضة التحرير في مصر إذ أزالت الحواجز الدينية والسياسية والفئوية التي رسخها نظام مبارك وأكدت وحدة الجماهير في مواجهة القهر والفساد والاستبداد حيث جمعت العلمانيين والمتدينين وجميع الأطياف السياسية والفكرية في لحظة تاريخية فارقة وأكدت أن سياسة التفرقة والتفتيت هي منهج سلطوي محض مارسته النظم الاستبدادية والعنصرية. وتتشارك انتفاضة التحرير وسويتو في ملمح آخر، فقد أجبرت سويتو العالم كله على إعادة التفكير في جوهر النضال الإفريقي إذ أكدت أنه نضال يقوم به الأفارقة من أجل استعادة حقوقهم وهويتهم وأزالت التفكير السائد لدى الغرب من استحالة أن يناضل الأفارقة لصعوبة تجمعهم في إطار نضالي موحد. كذلك أسقطت «ثورة يناير» المصرية وانتفاضة ميدان التحرير الأوهام التي كان يروجها الغرب ووسائل إعلامه عن استحالة توحد العرب حول أهداف نضالية، وأن جيناتهم تحمل بذور الكراهية والتمييز ضد الآخر. ويعلق حامي المواطن الجنوب إفريقي المنحدر من أصول هندية قائلاً: «إذا كانت قوى الاستبداد والاستغلال المحلية والعالمية تسعى إلى إضعاف الجماهير من خلال تكريس بذور الانقسام والتفتيت الثقافي والديني، فإن الانتفاضات الجماهيرية تقدم البديل الثوري الذي يوحد المنقسمين. وقد تجسد ذلك في انتفاضات «الربيع العربي» في مصر وتونس وليبيا وسورية». وفي ختام هذه الحوارات، يرى البروفيسور تاندون أننا قد نستطيع التنبّؤ بالكوارث الطبيعية مثل الزلازل والتسونامى. ولكن لا نستطيع أن نفعل ذلك في الأحداث السياسية لأن ذلك يتطلب خيالاً مختلفاً عما هو سائد. فالثورة الديموقراطية بدأت في مصر. وإذا كان التغيير الديموقراطي في جنوب إفريقيا قد استغرق عقدين كاملين بعد انتفاضة سويتو، فإنني أرى أن انتقاضة التحرير في مصر قد تسفر عن حدوث إصلاح وليست سوى خطوة على الطريق الطويل لتحقيق التغيير الثوري في مصر. ولكن أهمية ما حدث في مصر تكمن في قيمته الرمزية كنضال جماهيري يمكن أن تقتدي به سائر المجتمعات العربية والإفريقية، إذ يفتح آفاقاً جديدة وفرصاً غير محدودة للتغيير وهناك الكثير من التحديات التي تواجه مصر بعد الانتفاضة. * كاتبة مصرية