عبدالرحمن الراشد * الشرق الأوسط اللندنية قصة بطل تحرير جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا تستحق أن تدرس في مدارسنا، ويطلق اسمه على مياديننا. قبل عشرين عاما خرج مانديلا من السجن وحقق ما كان يظن أنه مستحيل تماما. لا أعني تحرير بلده جنوب أفريقيا من حكم زمرة العنصريين البيض التي استعبدت البلاد، بل أيضا لأنه حافظ عليه بلدا متماسكا بكل ألوانه وبكل ترابه وأقاليمه ومواطنيه، الأمر الأقرب إلى المستحيل. كان يُظن بوقوع حرب أهلية، وكان يُجزَم بهروب السكان البيض الذين هم عصب حياة البلاد واقتصاده. المعجزة أن مانديلا حكم جنوب أفريقيا وحافظ عليها دولة مزدهرة، وجعلها نموذجا للتعايش والسلم الأهلي. كيف استطاع إقناع السود بالتسامح، والبيض بالعمل للجمهورية الجديدة؟ هذه هي معجزة مانديلا. خرج من السجن، الذي أمضى فيه كل شبابه (27 عاما)، وقاد الأفارقة الجنوبيين للقضاء على نظام الأبارتايد العنصري. تلك المرحلة رغم صعوبتها وآلامها، مهمة أهون إذا قورنت بما فعله لمنع الحرب الأهلية والحفاظ على بلد متقدم بكل المقاييس، لأن مانديلا والأفارقة الجنوبيين الثوار كانوا قد قضوا على النظام العنصري عندما أوصلوا الأمور إلى نقطة اللاعودة، وصارت نهاية الأبارتايد حتمية، وإن كانت ساعتها مجهولة وكيفية الخلاص أيضا غامضة. أهمية مانديلا أنه حافظ على البلاد سلما وروحا، فأزاح الأفارقة البيض من السلطة دون أن يلغي مواطنتهم في بلد استقروا فيه منذ أكثر من ثلاثمائة عام إلى جانب السكان الأصليين من قبائل الزولو والهوسا، ومن لحق بهم من مهاجرين أفارقة وبيض هاجروا على أثر اكتشاف الماس وتحولها إلى مركز تجاري بديل للممرات العربية المائية والأرضية الخطرة. زعامة مانديلا تجلت بعد أن صار رئيسا، عندما كان سجينا عمل ملهما للثورة، ثم صار حرا يتعقب النظام العنصري في كل أنحاء العالم لإسقاطه، وبعدها صار قائدا لكل مواطنيه. ومن أروع القصص التي سجلت تاريخ مرحلة زعامة مانديلا فيلم جديد بعنوان «إينفيكتوس» (أو الذي لا يقهر). يروي كيف حكم السود والبيض بعد انتصاره. كان أمام مانديلا بعد أن دخل قصر الرئاسة أن يبدأ حرب الانتقام ضد البيض الذين عذبوه لأكثر من ربع قرن في زنزانته الانفرادية، وحكموا مواطنيه الأفارقة بقوانين تساويهم بالحيوانات، لكن مانديلا فاجأهم بسياسة اليد الممدودة، وعاقبهم فقط بمحاكمات الاعتراف لتطهير النفس لا للانتقام والإعدام كما حدث في الثورات الأخرى. وصار خصومه في هذه المرحلة القلقة رفاق الثورة القدامى الذين سنوا سكاكينهم يرومون الانتقام من البيض. وبسبب مانديلا الذي عمم مفهوم التسامح فإن جنوب أفريقيا اليوم أهم وأكثر دول القارة استقرارا ونجاحا. مانديلا بعد نهاية رئاستيه رفض أن يمنح استثناء ويبقى في الحكم، تنازل عن السلطة، واليوم يعيش متقاعدا ملهما للعالم كله.