«أسمِّي هذا الكتاب لا مذكرات لأنه يجيب عن سؤال لا تطرحه المذكرات، ولا يجيب عن الأسئلة التي تطرحها، ثم لأنك تلقى فيه وجوداً مرتبطاً بالمأسوي في كثير من الأحيان. وجود لا يمكن رفضه. وجود المستغرب وفن الصدف». ما السؤال الذي يجيب عنه كتاب: «لا مذكرات» لأندريه مالرو، الصادرة ترجمته العربية أخيراً ضمن سلاسل «مكتبة الأسرة» في القاهرة، والذي ترجمه الشاعر فؤاد حداد ونشرت طبعته الأولى في عام 1974. تغاضى أندريه مالرو في اللامذكرات التي ابتكرها في السيرة الذاتية عن الحياة العاطفية المليئة بالتقلبات، كما أراد أن ينظم الأحداث لتكشف رؤية وكبرياء في الانتصار على النفس والأفكار والآخرين. وأدب المذكرات في الغرب، اتسم بالصراحة والاعترافية في بعض الأحيان، وبتجميل الذات والانتقائية في سرد المواقف والبعد عن الجرأة والصراحة في أحيان أخرى، بعد أن باركته الكنيسة في القرن ال18 الميلادي باعتباره مادة للاعتراف، ولكنه تخطى هذه البركة إلى ما هو أبعد من الطقس الديني. فاعترافات جان جاك روسو تنتظم في نزعة تبجيل الذات وإعلاء شأنها، في حين قرأ الناس في مذكرات دوستيوفسكي، ضعفاً وتصاغراً أمام الطعون التي تعرضت لها رواياته، وكانت مذكرات أوسكار وايلد مكاشفة استثنائية في معنى الحب والعلاقة الحرة، وألقت به إلى جحيم المساءلة القانونية، ولكنها أغنت النقاش بين الجيل الأدبي البريطاني الذي لحقه حول المثلية الجنسية. كل حالة، على تباعد أزمنة الكتابة، تبدو وكأنها مرحلة في الإعراب عن الذات ومكانة الكاتب الإبداعية، ومفهوم الفرد والفردانية. يرفض مالرو أن يكتب المذكرات، لأنه يرى أن الفرد في المذكرات يصنع لنفسه مكانة غير حقيقية. فالمذكرات التي كتبها القديس أوغسطين ليست اعترافات البتة، وهي تنتهي إلى رسالة في الميتافيزيقا. ولا يمكن أن يفكر أحد في أن يطلق صفة الاعترافات على مذكرات سان سيمون، فهو يتحدث عن نفسه ليثير الإعجاب. ومذكرات القرن العشرين ذات طبيعتين، فهي من ناحية شهادة على الأحداث، مثل مذكرات الجنرال ديغول عن الحرب، و «أعمدة الحكمة السبعة»، تؤرخ للسعي وراء هدف كبير، وهي من ناحية أخرى الاستبطان الذي يراد به دراسة الإنسان، وكان أندريه جيد آخر ممثليه المشهورين، لكن مؤلف «عوليس»، جيمس جويس، ومؤلف «البحث عن الزمن المفقود»، مارسيل بروست، استخدما شكل الرواية. بدّل «المستبطنون المعترفون» من طبيعة أعمالهم، ذلك أن اعترافات كاتب المذكرات، مهما بلغت قدرته على التحدي والاستفزاز، تبدو الآن واهية طفلية أمام المسوخ التي طلعت بها علينا استكشافات التحليل النفسي، حتى عند أولئك الذين ينازعون في نتائجها. كتب مالرو عدداً من الكتب تتوزع ما بين السرد الروائي والنقد الفني، ومن أهم رواياته «الوضع البشري»، و «الأمل»، إضافة إلى ذلك، فهو كاتب وفنان، صاحب رؤية موسوعية ويمتلك معارف دقيقة في الآثار وتاريخ الفنون والأنثربولوجيا، وعُين وزيراً للثقافة في عهد الجنرال ديغول، وله كثير من الكتب، منها «أقمار على الورق»، و «قيود يجب أن تُكسر»، و «اللاواقعية»، و «عابر سبيل»، و «الإنسان المزعزع والأدب». انخرط في مقاومة الألمان حينما احتلوا باريس، وأصبح قائداً لثلاثة قطاعات عسكرية في الألزاس واللورين، وأثبت بطولاته الفريدة من نوعها: «قال غاندي وقال نهرو: اطلب الحرية بين جدران السجون، وأنا لم أنزل سجوناً بمعنى الكلمة أو لم يطل عهدي بها، لقد أُدخلتُ المعتقل عام 1940، فسرعان ما تيسر لي الهروب، أما في عام 1944 فقد كان الأمر أشد خطورة. إن رفاقي الذين قبضت عليهم الشرطة الألمانية (رجال الغستابو في أغلب الأحيان) سلكوا إلى الموت النهج الذي نعرفه، بينما كنتُ أرتدي سترتي الرسمية عندما قبضت عليَّ دبابات فرقة الرايخ». حاول مالرو من خلال «لا مذكرات»، أن يصور رحلاته إلى الهند والصين وبلاد العرب ومصر واليمن، فاقترب من أدب الرحلات. كما تضمن الكتاب نفسه تأملات في الفن والحضارات القديمة والموسيقى والنحت: «أما الهند الجنوبية فلم تُقدر لي معرفتها إلا بعد ذلك بكثير، ولم أكن قد رأيت عام 1929 إلا الهند المسلمة وكنت قد وصلت إلى أفغانستان من طريق طشقند». توقف طويلاً عند مصر التي زارها، وقدم تأملات عميقة عن الحضارة المصرية القديمة تشير في شكل لافت إلى شغفه الشديد بمعطيات الحضارة المصرية، وتعتبر تأملاته امتداداً للشغف الفرنسي بمصر القديمة: «إن مصر بلا شك قد اكتشفت المجهول في الإنسان كما يكتشفه الفلاحون الهندوس. الفن لا يتبع عرض الشعوب الزائل، منازلهم ومتاعهم، ولكن الحقيقة التي أبدعوها تباعاً. لا يتبع القبر لكن يتبع الأبدي الخالد. كل فن مقدس يعارض الموت، وفن مصر القديمة مقدس وعارض الموت والفناء». تأثر مالرو بأفكار نيتشه، وخصوصاً بكتابه «هكذا تكلم زرادشت»، ومؤلفات مالرو كافة لا تخلو من تأثيرات واضحة لأفكار نيتشه، بدءاً من بواكير أعماله، ومروراً ب «الغزاة»، و «الوضع البشري»، و «المملكة العجيبة»، و «لا مذكرات»، وحتى «أشجار جوز تيننبرغ». فلقد بث في أعماله هذه أفكار نيتشه المتعلقة بالإنسان السامي الأمثل المتفوق دائماً من خلال ما يشهده الإنسان العادي من صراعات. وكان مالرو لا يتحدث إلا عن الفنانين الذين تجمعه بهم وشائج حميمة، ويحاول أن يستخلص من أعمالهم، كل ما هو جوهري وأساسي. وبهذه الطريقة، جاء إلى النقد الفني الذي أبدع فيه كتباً. يُعدُّ الكتاب شاهداً حقيقياً على العصر، على الصراع الذي دار في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها، كذلك كان شاهداً على عصر الجنرال ديغول الذي اتخذه وزيراً للثقافة وأعطاه الصلاحيات كافة التي تُعطى لوزير من أجل أن يحافظ على الهوية الثقافية لفرنسا، وأن يكرس لفنون وآداب وموسيقى تزيل الأثر الذي تركته الحرب في الشخصية الفرنسية.