يختبئ متحف مونبارناس في أعطاف وارفة من جادة «ماين» في الدائرة الباريسية السادسة فلا يعرفه إلا قاصدوه، علماً أنه يضج بمشاريع جذابة لكل مهتم بالثقافة، فرنسية أو كونية. وغالباً ما يقترن الاثنان في مشروع واحد كما هي الحال مع «الرحلة الأخيرة لأندريه مالرو الى هايتي» المعرض المستمر حتى نهاية العام الحالي.يأتي العنوان من باب تسمية الكل باسم الجزء، فالمعرض يضم أيضاً اثني عشر شريطاً تلفزيونياً شكل ما عرف باسم «المتحف الخيالي لأندريه مالرو» وهو متحف يتخطى النطاق الأكاديمي الى محاولة جريئة تضم كل الفنون التشكيلية مع خلفياتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية. عمل مالرو على تنفيذ هذا المتحف طوال عشر سنوات ثمرتها 25 ساعة من المقابلات والريبورتاجات جرى تصويرها في متاحف وأماكن ميدانية تجاوزت فرنسا الى إيطاليا، اليونان، إسبانيا، هولندا، المكسيك، إفريقيا، الشرق الأوسط، الهند واليابان، وأخيراً لا آخراً، هايتي. وشمل المتحف أجمل نتاجات الرسم والنحت والهندسة مرفقة بمقابلات مع الناس العاديين والفنانين الكبار إضافة الى النقاد والمحللين الثقافيين، على رأسهم بالطبع مالرو نفسه الذي حاول طوال نصف قرن أن يستكشف أسرار الفن وخباياه من دون أن يغفل للحظة قلق الإنسان أمام سر الموت. يعرض المتحف شريطين يومياً على مدار دوامه ابتداءً من المقدمة التي حملت عنوان «محترف النظرة» مروراً بزيارات في العمق الى كل من فلورنسا والبندقية وروما وأمستردام ومدن إسبانية مختلفة شملت جولات على بداية الفن الحديث وتحقيقات عن مونيه وغويا وبيكاسو وتأثيرات الهند واليابان وأفريقيا وأوقيانيا... حتى ليمكن اعتبار الأفلام والمعروضات دورة دراسية دسمة تثير الشغف وتوقظ آفاقاً معرفية مذهلة، ناهيك عن تأصيل الإعجاب بذلك الرجل الفوّار بالحيوية والحافل بالمفاجأت. أيقن مالرو منذ السبعينات أهمية السمعي - البصري في صناعة «عين» الزمن الآتي: «بين أول شاشة تلفزيون في فرنسا وبين وطء أرمسترونغ سطح القمر، كم مر من الوقت؟» تساءل مالرو ذات يوم وأضاف: «أين سنكون بعد عشرين عاماً؟ آمل أن تؤدي ظاهرة السمعي - البصري الى دخول الفن كل المدارس والجامعات والمعاهد ما سيشكل الحافز الجديد لتحولات تاريخية». وتعود نواة هذا المعرض الى حادثة وقعت قبيل وفاة مالرو وصدور كتابه الأخير «اللازمني». يومذاك افتقد المقربون اليه فصلاً مهماً ضمّ لقاءه مع غويا، علماً أن مالرو من أشد المعجبين بالتشكيلي الإسباني الكبير. وتبين لاحقاً أن مؤلف «الشرط الإنساني» أراد أن يضمّن كتابه الفصل المتعلق برحلته الأخيرة الى هايتي، لكن ناشره رفض تعديل المادة المعدة للطبع بسبب قرب موعد الصدور المقرر مما أثار غضب مالرو فقرر التخلي عن الفصل المخصص لغوياً واستبداله بقصة رحلته الى هايتي. بدأت تلك الرحلة مطلع عام 1975 حين وصل أندريه مالرو الى بورت أوبرانس برفقة صديقته صوفي فيلموران، وكان الكاتب معجباً بنهضة الفن الهايتي مذ رأى بعضه في دكار خلال المهرجان الأول لفنون الشعوب السوداء الذي نظمه صديقه الرئيس السينيغالي الشاعر سنغور. ارتقى مالرو الهضاب المطلة على العاصمة الهايتية زائراً مجتمع سان سولاي موئل فناني الفودو مثل تيغا وهيبوليت وسان بريس وغيرهم ممن رسموا في حال أخوذ تواصلي مع الأرواح المكرسة في تقاليد الفودو. هناك التقى فلاحين بسطاء وصيادين وبائعي بقول معظمهم أميّون توارثوا التلوين من دون أن يتعلموه واستطاعوا، من دون أن يدركوا، مزج الأنواع والمدارس في بوتقة تلقائية أذهلت كاتب «أصوات الصمت» فوضع ثلاثين صفحة محمومة واصفاً لقاءه بمن أطلق عليهم صفة «الشعب الرسّام بالسليقة». وخلص مالرو الى القول بأن الفن قادر على تجاوز الثقافات والأكاديميا والتراتبيات المسبقة ليفاجئ ويقلب المعادلات. امتلأت جدران متحف مونبارناس بلوحات وافدة من المتحف الوطني في هايتي ومن مجموعات فردية. بعضها موقع بأسماء معروفة وبعضها الآخر لمجهولين. السريالية جامع مشترك بينها. لكنها سريالية حلمية، رؤيوية، عارية من التذهين، مصدرها الوحي النابع من حرارة الإيمان بوجود حشد من الأرواح والرموز تدفع العقل الى التوحد مع هلوساته فتصبح الصورة انعكاساً لمجموعة غزيرة من المؤثرات الموروثة وما تثيره في العقل الباطن من رؤى. فالفودو ديانة اختلطت فيها الكاثوليكية بطقوس ذات مصادر أفرو كاريبية معظمها عائد الى الوثني والسحري من ثقافات القبائل. المشهد الاحتفالي في طقوسها تعبير عن عناد السكان الأصليين وقدرة مخيلتهم على تخطي أهوال الغزو والهجرة والإبادة والرق والعنصرية. وتلعب «أرواح» الفودو دور المحرض والموحي في تحفيز اللاوعي على تسلم زمام العقل، كما في أحوال الدروشة، كيما يغادر الإنسان واقعه الى ما بعد الواقع. على صعيد الصدمة الثقافية يمكن اعتبار هذا المعرض دحضاً وتحدياً للنظرة السائدة عن الفودو بصورة عامة، لكن خصوصاً ما روجت له السينما الأميركية التي أمعنت في تشويه الشعائر الدينية لسكان هايتي من طريق تكرار مشاهد السحر الأسود واللعنات الدموية والإيحاء بأكل لحوم البشر، فمصنع الأحلام في هوليوود وجد مادة سهلة التعليب في ظاهرة لم يفهمها ولم يحاول فهمها، بل سخرها بكل ما أوتي من سطحية ولا مبالاة لترويج أفلامه التجارية. وكم يبدو عمل أندريه مالرو في هذا السياق بمثابة صفعة مدوية تكشف عن إبداع يستحق الاحترام والتأمل والانضواء في مسار الثقافة الإنسانية.