قد تكون «مفاجأة» تقدّم الليبراليين في الانتخابات الليبية مؤشراً طيباً الى أن اكتساح الاسلاميين واجهة «الربيع العربي» ليست قدراً محتوماً. في سورية كما في ليبيا غرقت ثورة الشعب في الدم، لكن النهاية ستكون مشابهة بلا أي شك. فهذا قدر الأنظمة التي أخلّت ببناء دولة المؤسسات واحتقرت الشعوب وظنّت أن ترسانات السلاح يمكن أن تحميها الى الأبد. وفي سورية يمكن أيضاً القوى غير الدينية، مع احتساب «الفلول» التي يعتقدها النظام نصيرة له، أن تحقق حضوراً بارزاً في صناديق الاقتراع، وهذا ليس مجرد احتمال بل معطى اجتماعي بحكم التعدد الطائفي. ولعل تجربة مصر موحية، فعلى رغم أن التركيبة أقل تعقيداً مما هي في سورية، إلا أن واجب احترام حقوق الأقباط وأخذ التعدد السياسي في الاعتبار يفرضان على الرئيس «الإخواني» عدم الاعتماد على اللون الواحد. وحتى تجربة تونس، بتخفّفها من العبء الطائفي، توجب على الاسلاميين فتح المشهد السياسي لسدّ نقص في خبرة الحكم والادارة لديهم. هذا يعني أن تجارب شعوب «الربيع»، حيثما اتيح لها، لم تُحسم نهائياً بل لا تزال تتخلّق. عندما صرخ الشعب هنا وهناك بأنه «يريد» كان صريحاً بالقول إنه يريد «دولة مدنية»، في معزل عما اذا كانت الحشود الثائرة تعرف أو لا تعرف ما يعنيه ذلك، لكنه كان التعبير الأقرب الى طموحاتها، بل حتى في معزل عما أسفرت عنه الانتخابات، فالمصوّتون اختاروا من توافر أمامهم بعد الخلط الصاخب للأوراق غداة الثورات والانتفاضات وأيّدوا من يعتقدون أنه يقطع مع ما كان سابقاً، لكنهم لم يتخلّوا عن مطلبهم الأساس: ألا تعود هيمنة العائلة أو الحزب الواحد أو العسكر. ولا تختلف آمال السوريين عما أرادته الشعوب الأخرى، لذلك فإن استمرار الاميركيين والاوروبيين، والروس والصينيين، في تخويف بعضهم بعضاً من سيطرة الأصوليين على سورية «ما بعد الأسد» - ولا أحد يقول «ما بعد البعث» - يعادل قبول من لا يريدونه (النظام) تجنباً لمجيء من لا يرغبون فيهم (الاسلاميين)، ما يعادل أيضاً ركون القوى الدولية للأمر الواقع الحالي بترك الطرفين أو بدفعهما الى اقتتال بلا حسم وانتهاز هذه المبارزة لجني أكبر المكاسب الممكنة. لكن الرهانات الدولية تتوزّع بين نظام أصبح أقرب الى السقوط وتحاول روسياوايران استخلاص ضمانات لمصالحهما عبر التحكّم بما بعده، وبين معارضة دفعت ثمناً غالياً لزعزعة النظام وتحتاج الى عون فاعل من «أصدقاء الشعب» لإنهاء محنته، إلا أن «الاصدقاء» يعانون من الغموض الاميركي والتخبّط بين «مبادئ» باراك اوباما ومتطلبات اعادة انتخابه واحتمالات «صفقة» مع روسيا من دون أي كلفة اميركية قد تنعكس سلباً على الوضعية الانتخابية للرئيس. كانت ترجمة هذا التخبّط واقعياً أن النظام السوري يحصل على فرصة تلو فرصة، وعلى ترخيص تلو ترخيص، للاستمرار في القتل والمجازر. ف «الصفقة» موجودة ولا قدرة اميركية على إبرامها، ولا قدرة روسية على فرضها، ولا حتى هناك ضمان لعدم عرقلتها ايرانياً من دون ثمن لطهران. ثم إن العجز الدولي أفسح للنظام المضي في «اجتهاداته» سواء بمحاولة نقل أزمته الى لبنان أو بإقحام تركيا في مواجهة مفتعلة. والأخطر أن اطالة الأمر الواقع تفتح أنفاقاً تحت الأرض لطرح مشاريع تفتيت وتقسيم، من قبيل أن «حماية الطوائف أو القوميات» لن تكون ممكنة بعد سقوط النظام، إلا اذا تأمنت كيانات جغرافية خاصة، علويّة أو كردية مثلاً، استناداً الى ما آلت اليه التجربة في العراق. ونظراً الى عدم وجود تدخل عسكري خارجي يعجّل بحسم هذه المشاريع، فإن شعار «ترك السوريين يقررون مصيرهم»، كما فعل العراقيون، بات التسمية الديبلوماسية التي تسمي الشيء وتعني نقيضه. ف «المصير» الذي أراده السوريون، ولم يتح لهم بعد، كان ولا يزال واضحاً في كل وثائق المعارضة على رغم اختلافاتها، أي اسقاط النظام بالحراك السلمي وليس العسكري، لإقامة الدولة المدنية الديموقراطية والتعايش بين مكوّنات المجتمع كافة. أما «المصير» الذي يلتقي عليه النظام، موضوعياً، مع حلفائه وخصومه الخارجيين فيترجّح بين خيارين: إما بقاء النظام «مع اصلاحات» لإجهاض الحراك الشعبي ورفع الضغوط الغربية وبالتالي العربية، ولا شيء يضمن مصالح روسيا وإيران إلا ببقاء النظام «مُستصلحاً». وإما استمرار الحرب الأهلية حتى انتقال النظام الى دويلته المتخيّلة، وانطلاق تغيير عميق وجذري يقطّع خريطة سورية الى مناطق نفوذ ومحميّات. بين المصير الذي اختاره الشعب والمصير الذي اختاره النظام، يبدو الاخير بشقّيه أكثر اغراءً لمساومات القوى الدولية، خصوصاً الغربية التي تبقى المصلحة الاستراتيجية لاسرائيل أولويةً لديها. فإذا رجح «بقاء النظام» مع اصلاحه (وفقاً للتفسير الروسي للعملية السياسية التي يقترحها كوفي انان) تحصل تلك القوى جميعاً على حصة، فالنظام «يبقى» عندئذ ضعيفاً ويفقد تحالفه مع ايران زخمه. أما إذا رجحت مشاريع التفتيت والتقسيم، فإنها ستربك الجميع، لكنهم سينطلقون في سباق محموم على المصالح، إلا أن هذا المسلك ينطوي على مخاطر امتداد العدوى الى كل الجوار الجغرافي الأقرب والأبعد. من هنا، على الروس والايرانيين أن يحددوا بوضوح ما يعنونه عندما يتحدثون عن ترك السوريين يختارون «من دون تدخل»! على رغم أن انفرادهم بالتدخل الى جانب النظام وبالتأكيد ضد الشعب لا مستقبل له، بل هو الذي يدفع سورية والمنطقة الى أكثر السيناريوات سوءاً. في المقابلتين البكائيتين مع «لوموند» الفرنسية و «الغارديان» البريطانية لم يكن كوفي انان ينعى مهمته وإنما كان يبحث عن تمديد لعمرها، وتكمن المفارقة في أنه يعزو «الفشل» الذي بلغه الى «أصدقاء الشعب السوري» الذين لم يتعاونوا معه، اذ يعتقد أن روسيا ساعدته، وكذلك النظام السوري، ولم يكن ينقصه لينجح سوى المساعدة الايرانية. لا يمكن وصف انان بأنه ساذج، لكنه يتجاهل أنه ذهب أصلاً الى مهمة منزوعة الفاعلية وأن الذين «ساعدوه» تحكّموا بخطواته قبل أن يتحرك. ومجرد أن ينبري بشار الأسد للدفاع عن انان وعدم السماح بفشله، لا بد من أن يوضح للمبعوث الدولي - العربي أنه يلعب لعبة النظام مروّجاً للأوهام. فالكل بلا استثناء استخدمه ويستخدمه في معزل عما اذا كانت خطّته «جيدة للغاية»، كما وصفها الاسد، أو غير قابلة للتطبيق اذا أدارها الاسد وسيرغي لافروف وقاسم سليماني. الأرجح أن هذا الثلاثي سيتكفّل مصادرة «العملية السياسية»، اذ يعتزم انان الشروع بها، معتمداً أيضاً ومجدداً على ما فيها من أوهام وأهمها أن الشعب قدم كل هذه التضحيات من أجل محاورة النظام على أفضل السبل لاستبقائه حاكماً وقاتلاً. * كاتب وصحافي لبناني