«لا يوجد مستبدون حيث لا يوجد عبيد»... بهذه الجملة التي تعود للمناضل الفيليبيني «خوزيه ريزال» يُصدِّر الكاتب الكويتي الشاب سعود السنعوسي روايته الجديدة «ساق البامبو»، الصادرة عن الدار العربية للعلوم-ناشرون، وهي عتبة جيدة لهذا النص، من حيث اختيار قائلها، البطل الفيليبيني الذي تسبب في قيام ثورة تحرير الفيليبين برواية، وبالمقولة المقتطفة عن الاستبداد والعبيد. مع ذلك فليس النص عن الاستبداد والعبيد بقدر ما يتناول استبداد البشر بعضهم ببعض. وعلى رغم أن هذه هي الرواية الثانية للسنعوسي عقب روايته الأولى «سجين المرايا» التي دشن بها نفسه ككاتب موهوب وواعد، إلا أنها تمتلك الكثير من عوامل النضج الفني، بداية من اختيار المضمون، وكيفية تناوله سردياً، عبر خلق عالم زمني ومكاني شاسع يتوزع على جزر الفيليبين التي تشكل جسم ذلك البلد وبين الكويت في زمنها الراهن والمعاصر. بطل الرواية «عيسى» كما يطلق عليه أهل الكويت، الذي ينتمي نسباً الى والده الكويتي راشد الطاروف، هو أيضاً «هوزيه مندوزا» كما يعرفه أهل أمه في الفيليبين التي نشأ فيها وعاش حتى شبابه، فقيراً، موزعاً بين هويته التي يعرف، كفيليبيني مسيحي، من عائلة بسيطة، وهويته الأخرى التي لا يعرف عنها شيئاً ككويتي ابن أحد شهداء تحرير الكويت خلال فترة احتلال الأخيرة من قبل العراق. يقول هوزيه في بداية الرواية انه واحد من مئات من بشر يولدون بصدفة لقاء عابر، وعادة لا يعرفون لهم أباً، سوى أنه كان رجلاً أو شاباً خليجياً. لكن قدره الذي جعل من أبيه رجلاً مختلفاً تزوج الأم، واضطر الى التخلي عنها فقط بسبب ضغوط المجتمع والقبيلة، هو الذي تسبب في عودته شاباً يافعاً إلى بلاد أبيه وفاء للوعد الذي كان والده قد قطعه على نفسه. تتنقل الرواية، عبر ساردها إذاً بين ثقافتين، وأظن أن المؤلف نجح نجاحاً باهراً في تقمص البيئة الفيليبينية وتراثها الثقافي في وعي الراوي، وفي الوقوع على نبرة صوت خاصة لكنها صادقة لهذا الفرد الذي لا يعرف العربية. ولكنه يعرف انه ينتمي الى ثقافتها في شكل ما، المسيحي الذي لا يعرف الإسلام لكنه يعي أنه ينتمي إليه على نحو ما. وأظن أن المواضع السردية التي تحمل الصراع الفكري والوجودي لهوزيه حول حقيقة هويته، وحقيقة معنى الدين بالنسبة إليه، خصوصاً بعد انتقاله الى المجتمع الكويتي من المناطق الشديدة الثراء في هذا العمل. ومن خلال الراوي الذي نشأ في حي فقير في شمال مانيلا، مع جده لأمه ميندوزا، والذي حمل اسمه، مصارع الديوك السيئ الطباع، المقامر، الناقم على ابنتيه وعلى حياته كلها، والذي يعيش وحيداً في منزل صغير قريب من منزل بناته، نتعرف إلى تفاصيل من ثقافة الفيليبين، والحياة اليومية لأهلها، والمعتقدات والأساطير الخاصة بهذا التراث، وكيف ينمو بها وعي طفل ينشأ فيها. وعلى البيئة والجغرافيا التي تتنوع بين المروج والغابات والكهوف والصخور التي تتلون جميعاً باللون الأخضر، والتي يتتبعها من دون أن يغفل رتوش ربط الماضي الذي عاشه أهل الفيليبين ليتحرروا من المستعمر الإسباني بعد قصة كفاح كتبها ابطال الفيليبين مسيحيين ومسلمين، ثم يتنقل لاحقاً في امتداد هذه البيئة الفريدة بين البحار والشواطئ الزرقاء. ومن هذه الطفولة البائسة مع خالته وابنتها ميرلا وشقيقه من زواج أمه الثاني، الذي يتعرض لحادث يؤدي به إلى الحياة لاحقاً مشلول الإرداة والعقل، يتشكل وعي الطفل الذي تتحدد أولوياته ومشاعره واختياراته في الحياة بناء على هذه النشأة. ويتعلق عاطفياً بابنة خالته ميرلا، ثمرة ليلة حب عابرة بين أمها وأحد الأجانب الذي اختفى لاحقاً تاركاً جيناته فقط علامة لا تمحى على هوية ابنته ميرلا فيليبينية الملامح الشقراء التي تتمرد على امها وعلى الحياة وتعيش ساخطة على كل شيء، كارهة حتى جنس الرجال بسبب سقطة أمها. وهو ما يقف حائلاً بينها وبين ابن خالتها خوزيه، أو عيسى كما سيعرفه أهله في الكويت لاحقاً. تتعرض الرواية لتفاصيل استقلال عيسى عن الحياة مع جده وخالته، خصوصاً بعد خروج ميرلا من البيت غاضبة على أمها إثر مشادة نشبت بينهما، حيث يعمل بائعاً جوالاً ويتعرف إلى شاب من أصل صيني يعيش في الحي الصيني في مانيلا، ويسكن معه، وتدور بينهما مجموعة من الحوارات حوال البوذية والمسيحية وحول الهوية والفقر. وهي الحوارات التي تكشف جانباً آخر من ثقافة الفيليبين المفتوحة على الثقافات الأخرى، المتعددة كما أغلب الثقافات الآسيوية المترسخ في وعي أهلها مفهوم التسامح. يحضر شخص الروائي اسماعيل فهد اسماعيل عابراً حين تبدأ أم خوزيه (جوزفين) في البحث عن زوجها الكويتي راشد الذي انقطعت أخباره فجأة عقب الغزو، فتستدل على اسماعيل الكويتي، بصدفة محضة (اسماعيل فهد اسماعيل عاش في الفيليبين بالفعل عقب الغزو لمدة سبع سنوات)، ومنه ستعرف أنه كان صديقاً له، وواحداً من أعضاء المقاومة الكويتية في فترة الغزو. وسوف تتبين لاحقاً أن راشد قد استشهد. تبدأ قصة بحث الإبن عن جذوره في الكويت، فيعود إلى أحد أصدقاء ابيه، وهو غسان، أحد رجال المقاومة، لكنه من فئة البدون. وهنا يتعرف خوزيه أو عيسى إلى ملامح من بيئة أبيه، ويتعرف القارئ أيضاً إلى واحدة من أبرز معاناة قطاع كبير من الشعب الكويتي الذي حرمته ظروف تاريخية وصدف مدهشة من أن يحمل الجنسية، ولكنها تفتح باب السؤال واسعاً عن معنى المواطنة أساساً في مجتمع كهذا. الرواية تقدم تشريحاً اجتماعياً مفصلاً للمجتمع الكويتي، ولمحات عن ابرز المحطات التاريخية التي شهدها المجتمع الكويتي في تاريخه المعاصر، وترصد الفارق بين مجتمعين، كان الأول يبدو اكثر تسامحاً مع ذاته وانفتاحاً، ثم مجتمع آخر متشكك في كل شيء، منغلق على ذاته. وتقدم نقداً اجتماعياً لاذعاً للمجتمع الكويتي، في الفترة التي أعقبت الغزو، راصدة التغيرات التي لحقت بالمجتمع وشكلت الكثير من التباينات الطبقية، التي امتدت آثارها حتى الزمن الراهن، كما تخترق الصمت السردي المضروب حول المجتمع الكويتي، المسكوت عنه تقريباً، لتكشف القيود التي يضعها البشر بعضهم على بعض بسبب التراث القبلي والعائلي. وتظهر على نحو خاص القيود التي ترزح تحتها الطبقات الأكثر ثراء والعائلات الكبيرة اجتماعياً في الكويت، وربما في منطقة الخليج. إن أبرز سمات هذه الرواية هي انفتاحها على الآخر، وتأكيدها مفاهيم التسامح وطرح الأسئلة حول الهوية من منطلق يعيد فك العقد الطائفية والطبقية، وإعادة الأشياء أو التعقيدات الطائفية والطبقية إلى أصولها الأولى حين يتم تأملها من وعي الراوي المختلف، الذي يعد وافداً على مجتمعه، يشعر أنه ينتمي إليه بحكم بنوّته لأبيه، فيما يواجه منفرداً الأبواب التي تنغلق أمام وجهه واحداً بعد الآخر من دون أي ذنب اقترفه تجاه هذا المجتمع. تتسم الرواية التي تقع في نحو 400 صفحة من القطع المتوسط، بإحكام سردي، وبلغة رشيقة معتنى بها، وبتمكن من التفاصيل، والانتقال بين الشخصيات والأزمنة الروائية، ما يؤكد الجهد البحثي والمعايشة التي بذلها الكاتب سعود السنعوسي للثقافة الفيليبينية والمجتمع في الفيليبين. وهي في ظني إضافة مهمة للرواية الكويتية المعاصرة وللرواية العربية الجديدة عموماً، وأظن أن اسم سعود السنعوسي سيكون واحداً من الأسماء البارزة في فضاء السرد العربي في المستقبل القريب جداً.