لا يمكن إغفال فرحة لم تدم طويلاً، لكنها عمّت أوساط ديبلوماسية وسياسية وإعلامية كثيرة في تركيا، بإعلان الرئيس عبدالله غل عزمه على العودة إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم بعد تسليمه الرئاسة لرفيق دربه رجب طيب أردوغان الذي فاز في أول انتخابات بالاقتراع المباشر. (للمزيد) شبكات التلفزة الإخبارية سارعت إلى قطع أخبارها لنقل هذه المفاجأة ومناقشتها، ما أشاع مناخاً من البهجة والأمل لدى جميع المحللين، من الموالين للحكومة ومعارضيها، سببه أن عودة غل من شأنها أن تتيح تغيير أمور كثيرة في تركيا، أولها استعادة الحزب الحاكم هويته الوسطية، وإنهاء التوتر والاستقطاب السياسي والطائفي في البلاد. فغل حافظ على شعرة معاوية ومقدار وافر من الاحترام في تعامله مع المعارضة التي لا تخفي أن الحوار معه أفضل وأكثر نضجاً من الحوار مع أردوغان. بل أن أجواء التفاؤل طاولت أوساطاً ديبلوماسية عربية في أنقرة، في لقاء عقده سفراء عرب يتابعون باهتمام تداعيات إعلان غل، فذهبت مخيّلة بعضهم إلى قدرة الأخير، بلباقته الديبلوماسية، على ترميم ما فسد من علاقات مع مصر ودول خليجية، لكي تتعاون المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا مجدداً في مقابل المد الإيراني الآتي بدعم إرهاصات اتفاق مع الغرب لتسوية ملفها النووي. ناهيك عن عودة الدور التركي الحيادي الذي يمكنه التوسّط لتسوية مشكلات في المنطقة والعمل على إنهاء التطرف المتنامي، بل ربما دفع تنظيم «الإخوان المسلمين» إلى إعادة حساباته وإجراء مراجعة إيجابية شاملة لسياساته. كان حلماً جميلاً وجيزاً مرّ في مخيلة كثيرين، لكنه تلاشى إثر إعلان انتخاب رئيس جديد لحزب «العدالة والتنمية» قبل يوم من تسليم غل الرئاسة، ما يعني حرمانه من خوض تلك الانتخابات، وإغلاق الباب أمام عودة فاعلة له، إلا إذا أراد أن يعود تحت رئاسة زعيم جديد يختاره أردوغان، وهذا ما يبدو مستبعداً. هذه المناورة السياسية التي وُئدت سريعاً، تركت بصمات واضحة في شأن وجود خلاف حول مستقبل الحزب الذي أسسه غل وأردوغان. وعلى رغم محاولة الرجلين نفي ذلك، بظهورهما في احتفال وداعي لغل في قصر الرئاسة جنباً إلى جنب في صورة واحدة، فإن بولنت أرينش، نائب رئيس الوزراء، اتهم صراحة «أيتام الحزب بعد أردوغان» بإفساد هذه العلاقة وتحريض رئيس الوزراء على إغلاق الباب أمام عودة رفيق دربه، محذراً من تدهور أوضاع الحزب بواسطة أولئك «المتملقين». الكاتب فهمي كورو المعروف بقربه من «العدالة والتنمية»، يعتبر أن أردوغان «يدرك أن غل هو الرجل الأكثر شعبية داخل الحزب، وأنه الأكثر قدرة على تعزيز شعبيته في الانتخابات النيابية المقبلة، من أجل تأمين نصاب لازم لتعديل الدستور وتحويل النظام رئاسياً كما يحلم أردوغان». لكن على رغم ذلك يصرّ أردوغان كما يبدو على أن يشرف بنفسه على المرحلة المقبلة، من نافذة الرئاسة على الحزب والحكومة. وترى الكاتبة نازلي إليجاك التي كانت نائباً عن الحزب الحاكم، أن ملفات الفساد التي تلاحق رئيس الوزراء وعائلته هي سبب إصراره على الإمساك بكل مفاصل الأمور وعدم تركها لغل الذي لم يدعمه بقوة في أزمته مع اتهامات الفساد قبل أشهر. كما أن خسارة غل حصانته النيابية تجعله تحت رحمة أردوغان الذي يمكنه أن يحرّك ملفات قضائية قديمة مجمدة في شأن تبديد أموال حزب «الرفاه» قبل حلّه، والتي ورد فيها اسم الرئيس التركي الذي كان يدافع آنذاك عن أستاذه نجم الدين أربكان. والقرار المفاجئ بتعيين علي صاري قايا، نسيب وزير الخارجية أحمد داود أوغلو وأحد المقربين منه، أبرز مستشاري رئيس الوزراء، يمهّد لافتتاح عهد داود أوغلو في الحزب والحكومة، ولو اضطُر أردوغان لتأجيل هذه الخطوة مرحلياً، لتفادي ضغوط قيادات حزبية رافضة لنهج داود أوغلو وزعامته وخضوعه المطلق للرئيس المنتخب. تبدو أحلام أردوغان كوابيس لكثيرين في تركيا وداخل حزبه، ولكن مثير للاهتمام تلمّس مدى التغيير الذي يمكن أن تشهده تركيا، إذا أتاح رئيس الوزراء عودة رفيق دربه إلى قيادة الحزب، وهذا فارق شاسع لا يكاد يلتئم بين سياستَي رجلين يتساءل كثيرون كيف استطاعا إخفاء هذا المقدار من التناقض بينهما طيلة ربع قرن.