في شمال شرق مدينة الطائف، بين «الأتيداء والعبلاء والحريرة ووادي الأخيضر» تحولت حال الهدوء المطبق والسكون التام التي خيمت على الصحاري القفار الموحشة طوال أشهر عدة إلى حركة دؤوبة ونشاط تام. تسارعت خطى وفود الزائرين زرافات ووحداناً لتقصد سوق عكاظ منذ انطلاقتها الأسبوع الماضي في دورته الثالثة، لينبئ عن مستقبل مشرق للأمة العربية التي وعدها بتلاقح أفكارها الثقافية في بوتقته. ويحمل الزائرون في مخيلتهم رحلة استكشاف لسوق شهده رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، في صباه محارباً ومتسوقاً ثم داعياً إلى الإسلام ومبلغاً لرسالة ربه عز وجل بعد هبوط الوحي. وكثيراً ما تقودهم الخطى صوب سوق عكاظ على إرواء تعطشهم بالتنقيب في تاريخ العرب القديم، حيث استجار الرسول ببني عامر فأجاروه ووقف عمر بن الخطاب مصارعاً لأقرانه. وارتاده حكماء وشعراء وحكام العرب في منظر يعطي دلالة لوهج لافت لإقبال باهر ينم عن حرص كبير لارتياد جادة عكاظ. مزجت تلك الجادة الحاضر بالماضي العتيق الضارب في جذور التاريخ، من خلال تزاحم حضارتين على أرض عكاظ، شملت معروضات، أولاهما منتجات الورد الطائفي ذو الجودة العالية تبين الفوائد الصحية لماء الورد ومراحل ومواسم قطافه، إلى جانب ركن صناعة الألعاب الشعبية الذي حوى صناعات تقليدية عدة شملت: صناعة الدوامة والنباطة والحداة وأم تسعة والوشاشة ومشاية الأطفال والرارة والدنانة، وجميعها ألعاب تسلية تتطلب مهارات خاصة لاستخدامها، إلا أنها على رغم بساطتها ذات قدرة عجيبة على خلق أجواء ترفيهية حالمة تداعب الزوار وتجذبهم إلى عوالم خاصة من المتعة قل أن توجد. وداخل جادة عكاظ، أثبت «المنثور» وهو حزام جلدي، ذاته وتفوقت الأصالة على آخر صيحات الموضة اللامعة، وغاص المارة في أعماق ذاكرتهم ليسترجعوا ذكرى رواجه، إذ كانت النسوة يتهافتن على ارتدائه فوق الحزام الوسطي المشغول بالقصب والحرير. وبعيداً من ذكريات الماضي والتغني بأصالة الموروث، حفل الركن الثاني من جادة سوق عكاظ بأحدث ما توصل إليه علماء التقنية والاتصالات. وتعددت عروض الاتصالات الحديثة التي تنوعت بين السلكية واللاسلكية، واختلفت فهنا عروض للاتصال بشبكة الإنترنت وهناك عروض ثانية لآخر تقنيات البريد، وبينهما تتعالى أصوات جحافل الفرق الشعبية التي تمر قوافل إبلها التي يشدو ملاكها بأهازيج فلكلورية، قبل أن ترقب الأعين استعراضات مهارات الخيالة، وجملة من المشاهد الحية لمقتطفات تمثيلية اقتبست من كتب التاريخ لتولد حضارة جديدة يخلدها التاريخ للأجيال القادمة. وفي الاتجاه المقابل، برز الخط العربي ليعلن عن عودة الروح إلى جسده، بعد حال احتضار مر بها جراء وفاة الخطاطين العظام، منتهجاً تدريب الناشئة الموهوبين وشحذ هممهم للحفاظ عليه، معانقاً التصوير الفوتوغرافي، لإخراج أشكال فنية تليق بذائقة المتلقي. وفي ركن خجول برزت مشاعر الحياء من العصور الماضية، إذ كان الإنسان البدائي يتمتع بمناعته الطبيعية ومقاومة الأمراض التي لم تكن مألوفة آنذاك، بينما ظهرت الجهات الصحية بالمرصاد لمجابهة إفرازات العصر الحديث التي ذهب الإنسان ضحيتها مزودة بالمضادات الحيوية وأجهزة قياس الضغط والسكري وتحليل مؤشرات الإصابة بالإيدز. ويمكن الخلوص، إلى أن ألسنة الزوار ستعقد فور خروجهم من جادة السوق، بينما سيحلقون في عوالم حالمة، تتزاحم خلالها أفكارهم، وذكرياتهم، وتأويلاتهم، بعد رحلة في منتهى الروعة يلامسون فيها عراقة الماضي قبل أن يقفوا على حداثة الحاضر.