يدور في خَلَدِ المُشاهد، وهو يتابع الفضائيات الإخبارية العربية، حلم يكاد يكون مستحيلاً، وهو يتجسد في سؤال: ماذا ستقدم تلك الفضائيات لو خلت المنطقة من كل هذه الأحداث والحرائق والدماء؟ على مدار 24 ساعة ننتقل مع مذيعي تلك المحطات من الأحداث المصرية والانتخابات الرئاسية فيها، إلى الأزمة السورية وتطوراتها المقلقة، إلى «اليمن السعيد» الذي يعيش تداعيات نهاية حكم وبداية حكم جديد لا يخلو من فوضى، إلى الخلافات بين السودان وجنوبه المولود حديثاً، إلى ليبيا والتركة الثقيلة التي خلفها زعيم مستبد، إلى العراق وخلافات زعمائه وقادته، إلى لبنان الذي لم ينس بعد آلام حرب أهلية مرعبة، وصولاً إلى فلسطين والحلول العصية المنال منذ عقود وسط تجدد مآسي شعبها بين حين وآخر... ملفات شائكة تعصف بالمنطقة العربية، وهي تشكل الزاد الرئيس للفضائيات الإخبارية التي اقترب عددها من الثلاثين محطة، بما فيها تلك الآتية من عواصم غير عربية لكنها ناطقة بلغة الضاد. ماذا سيحصل لو أن هدوءاً ساد هذه الدول، وراحت لغة السياسة والديبلوماسية تطغى على ما عداها، وبدأت الأوضاع تستقر، فيعيش الناس في طمأنينة وأمن ووئام ورخاء من دون أن يعكر صفو هذا «السلام السماوي» الافتراضي أي شيء؟ هل سنرى ونسمع، عندئذ، في صدر نشرات الأخبار، مثلاً، أن فيلماً عربياً فاز بجائزة في مهرجان ما؟ أم سنكون على موعد مع خبر رياضي؟ أم سنمسع خبراً عن عرض أزياء أو مسابقة ملكات الجمال؟ أو صدور رواية جديدة أو الصدى الذي أحدثه عرض مسرحي...؟ هل سنصغي إلى تقرير عن رحلة مدرسية مرحة بدلاً من رؤية مجزرة فظيعة كمجزرة الحولة في ريف حمص السورية، وهل سنشاهد تقريراً مصوراً عن مدينة ملاه، بدلاً من تقارير عن مخازن أسلحة وخيم اللاجئين؟ ثم أين ستذهب تلك الوجوه «المملة» التي اعتدنا سماع تحليلاتها وتوقعاتها، وكيف سيكون مصير أولئك المحاورين المتمرسين الذين اكتسبوا خبرة واسعة في استفزاز الضيف بأسئلة محرجة؟ ما سبق هو محض خيال جامح، فالامر الأكيد الوحيد هو أن هذه التراجيديا ستظل تطبع الجغرافيا العربية بطابعها لألف سبب وسبب، وستستمر عدسات الفضائيات في نقل هذا الجحيم إلى الشاشات، وتقدمه صوراً دامية لذاك المشاهد الحالم، خصوصاً ان هذه الفضائيات لم تعد مضطرة إلى أي مونتاج أو غرافيكس أو صنع مشاهد بصرية تحرك الوجدان والضمائر، فما تحصل عليه من صور واقعية تفوق خيال أبرع مخرجي أفلام الرعب، وتفوق كذلك مخيلة أمهر مصممي الخدع السينمائية...حتى بات المشاهد العربي يشك في تلك القاعدة التي تقول ان جموح الخيال يفوق فجاجة الواقع، فالواقع تجاوز الخيال بأشواط، ولإثبات ذلك لا يحتاج الأمر سوى إلى «صبر ساعة» أمام شاشة إخبارية!