على خلاف التصريحات التي تطلقها وزارات الإعلام العربية حول نيتها في تغيير الهوية البصرية لشاشاتها بقصد الجاذبية والتطوير، فإن هذه الهوية البصرية الجديدة المنتظرة قد تغيرت فعلياً منذ أكثر من شهرين، ولكن ليس بجهد «رسمي»، بل في شكل قسري فرضته الجماهير الغاضبة، فنرى مشاهد الجموع تحتل الشاشات لتذكرنا ببيت للشاعر السوداني محمد الفيتوري يقول: «الملايين أفاقت من كراها ما تراها ملأ الأفقَ صداها». من النادر، ومنذ أسابيع، أن نجد خبراً عن قمة أو مؤتمر أو اجتماع يظهر فيه المسؤولون، وكما جرت العادة، وهم منهمكون في «ترتيب أحوال الرعية»، والبحث عن السبل الكفيلة بتحقيق تطلعاتها ومصالحها! ولكن يبدو أن «الرعية» ملت من الانتظار ومن الكلمات المنمقة والوعود المؤجلة، وراحت تبحث بنفسها عما يحقق أمانيها وآمالها، لتكون هي مبتدأ الخبر ومنتهاه. في مثل هذه الأخبار، لن نجد السيارات الفارهة وقاعات الاجتماع الفخمة والولائم الباذخة، بل على العكس، سنصغي الى صرخات الغضب وأنين الجرحى، وسنرى ملامح البؤس والشقاء على وجوه أرهقها الزمن، تماماً كتلك الصيحة الموجعة التي يطلقها الرجل التونسي، وهو يمرر يده على شعره الأشيب، والمرارة تعتصر صوته الباكي: «هَرِمْنا...هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية». جموع تموج وسط غابة من اللافتات والرموز والشعارات التي لم تعتدها الكاميرات ولا أعين المشاهدين، فهي تعلي قيمة الوطن فقط. جموع تتصدى لكل آليات القمع من السيارات التي تسير بسرعة جنونية لتحصد أرواح أبرياء، إلى الهراوات والعصي وأعقاب البنادق إلى الغازات المسيلة للدموع... وغيرها من الوسائل، وصولاً إلى استخدام الذخيرة الحية التي لم تنفع في إخماد الغليان وموجات الاحتجاج العاتية. هي هوية مختلفة، إذاً، وصورة أخرى مغايرة راحت تغزو الفضائيات، وعلى رغم أدوات الحجب والتشويش والتعتيم الإعلامي، لكن الصور، وبمعونة التكنولوجيا، تتسرب إلى الشاشات على هذا النحو أو ذاك. وهي صور لا تنقل الحدث فقط، بل أحدثت إرباكاً في ذهنية المؤرخين وعلماء الاجتماع الذين أسهبوا في حديث يقول إن «هذه المنطقة راكدة، وهي غير مؤهلة للتغيير». لكن الأحداث الدراماتيكية قوّضت هذا التصور النمطي، ولعل الوثائق الهائلة المصورة التي ستستقر في أرشيف الفضائيات ستبرهن خطأ تلك النظرة النمطية، وستشغل الباحثين طويلاً للتنقيب في أسرار ما جرى. هذه الهوية البصرية الجديدة لا تأبه بأناقة الصور «الرسمية» التي يجري توليفها بدقة متناهية بحيث لا يخالطها أي خدش أو خطأ. هنا الصور تأتي عارية، مباشرة، من فوضى الشارع ومن عتمة الزوايا الفقيرة والأحياء المنسية، ولا غضاضة في أن تكون مشوشة حيناً، مهتزّة أحياناً، ومفتقرة الى الضوابط المهنية في أحيان أخرى. لكنها، في كل الأحايين، تعيد ترتيب أوراق المشهد السياسي، وتشهد على تحولات كبيرة فاقت كل التوقعات.