الصورة نسيج شفاف ينهض على محاكاة الواقع بالقدر الذي يحاول تفسيره. بمعنى أنها خطاب جدلي يمتد إلى ما وراء البصري، إذ تشكّل وحداتها حقلاً من العلامات الظاهرة والمستترة القابلة للتخرّص التأويلي. بما تتضمنه طياتها من إشارات اجتماعية وسياسية ودينية ورمزية. وهي - أي الصورة - بالنسبة إلى ليلى رحيميان نص غريزي، يخاطب الذوات التواقة للتحرّر، ويكتظ بفائض من الدلالات التي تحيل إلى فكرة تفكيك البنية الاجتماعية، وتحدي قيم المؤسسة بكل تداعياتها وتمفصلاتها، وإن بدا نصها ظاهرياً مجرد رغبة للتنفيس عن أزمة ذاتية، انطلاقاً من أيديلوجيا الجسد، الذي تعود به إلى فطرته، أو الدرجة الصفر على المستوى الشكلي والحسّي. كما يبدو ذلك جلياً ومؤانساً من خلال منظومة الصور المعالجة بثنائية الأبيض والأسود، وما يستتبع ذلك التقابل اللوني من جدل مفهومي. ولتحقيق أكبر قدر من الجدل المعبّر عنه بالصور، الضاجّة بالأسئلة والاستفهامات، تعتمد تقنيات الفوتومونتاج، فتلك هي طريقتها الفنية لاحتياز سلطة يمكن بموجبها تقويض السلطة المضادة. وهذا هو بالتحديد ما تحاول التصريح به من خلال شريط صورها. فالمرأة الإيرانية التي أُريد لها وفق وصايا الثورة والمؤسسة الدينية في إيران أن تُحبس في قالبي: الشهيدة أو أرملة الشهيد، وما أعقب ذلك الطرح من تمجيد «الشادور» وفرضه على النساء، تفتح لها ليلى رحيميان مساحة رحبة من البياض، بما يوحي به من رغبة للانعتاق والتقدم والحداثة، في مقابل سواد يُحيل إلى العبودية والتزمّت والانغلاق. بموجب ذلك التضاد، تجعل من صورتها المستزرعة على الدوام بكائن أنثوي يحاول الانسلاخ من السواد باتجاه البياض، محلاً لتحدي السلطة، وتقويض الأفكار الشمولية، من دون التورط في موضعة المرأة المقهورة في مقابل الرجل القاهر، إذ تعي جيداً أن معركتها مع الوصايا المركزية وليس مع الرجل، أو هكذا تعبّر عن هواجسها ورغباتها الإنسانية العميقة بصورة حداثية النزعة، ذات طابع نسوي ناعم، من خلال امرأة منقّبة وملفّعة بالسواد، تقبض براحتها على إطار، يحبس نصفها العلوي. وفي المقابل ينطلق نصفها السفلي بحرية خارج الإطار، لا يغطيه سوى تنورة بيضاء قصيرة ترتفع إلى ما فوق الركبتين. فيما تنتعل فردتي حذاء سوداء وبيضاء كناية عن الانفصام. هكذا تُمسرح صورتها كلوحة تحتدم فيها المتناقضات، ففي صورة أخرى مقابلة، ينحبس النصف السفلي للكائن الأنثوي ذاته في الإطار ذاته بتنورة سوداء طويلة، فيما يتحرر الجزء العلوي من الملابس، إلا من قطعة بيضاء متقشّفة، وينحسر شعر الرأس مسترسلاً من دون أي حجاب، في الوقت الذي تتأرجح فيه قدم ملفوفة في فردة حذاء بيضاء، كدلالة على الانفلات من أسر الإطار. وهذا ما يمكن أن تجيب عليه الصورة على المستويين التخيلي والمعاش، إذ لا ينفصل الجانب المصنوع منها عن الجانب الواقعي، بل يماثله ويستكمله، من خلال مفاعلة فطنة ما بين حرفية تمثيل الوقائع وسلطة تصديقها. هذا الكائن هو ذاته الذي يمارس لعبة الفرار من الوصايا، ففي متوالية من الصورة تشكل وحدة سردية متواصلة، يدخل الكائن المقهور الإطار بكامل سرابيله السوداء، ليمر عبر إطارات، هي بمثابة مضائق أو مرشِّحات، متخففاً من أسماله النفسية والجسدية، إلى أن يعبر برزخ الحرية بقماشة بيضاء صغيرة لا تكاد تغطي سوى حميمياته، وفردة حذاء بيضاء أيضاً كالعادة، تاركاً وراءه السواد كله ملقى على الأرض. كما يتكرر المشهد نفسه في متوالية أخرى تمزق فيه امرأة ثائرة كفنها الأسود، وقماشة اللوحة، لتخرج من شرنقتها، في ما يبدو انفجاراً غرائزياً، إذ لا تخلو حركة المرأة في استغنائها عن بعض الملابس من إيروتيكية بشكل ما من الأشكال. إنها مرآة المرأة الأخرى المعروفة في علم النفس، فهذه المرأة المحبوسة في إطار الوصايا، مدفوعة من ليلى رحيميان للتعبير عن غرائزها، واستخدام جسدها لتحطيم مفهوم الأيقونة المقدّسة، وتقويض سحر الخرافة المقرّرة مدرسياً من المؤسسة، اعتماداً على الباستيش Pastuche أي مزج الوحدات داخل الصورة، وإعادة ترتيب نظام العلاقات داخلها كلوحة، بما يضمره ذلك الفعل الحداثي من تمرد على السلطة ومناوأتها، مع مراعاة تبسيط جوهر الصورة، والنأي بها عن تعاليات الفن الراقي إلى بساطة الواقع، وهو خطاب قتالي ناعم دأب عليه الكثير من الكتّاب والسينمائيين والتشكيليين في إيران. على هذا الأساس كثّفت ليلى رحيميان من الصور التي تتضمن حالات من التقابل الحواري الصامت، كما في الصورة التي تجمع امرأتين: إحداهما امرأة ترتدي «الشادور» وتدس قدميها في حذاء أسود، تعطي ظهرها للمشاهد، وتحمل حقيبة سائرة باتجاه نفق مظلم، في مقابل امرأة مقبلة باتجاه المشاهد، يحفّها قوس من الشجر. تلف جسدها بملابس بيضاء خفيفة، وحذاء أبيض، وتحمل هي الأخرى حقيبة، وكأنهما مرموزتان لحالتين، أو ذاتين، أو زمنين: أحدهما معتم آفل، والآخر يعد بالأمل والضياء. يتكرر الحوار ذاته في لوحة تضم المرأتين أيضاً، إحداهما تنتصب في حالة من التحدي بملابسها البيضاء الضئيلة تدخن السيجارة، وتتأمل المرأة الأخرى المحبوسة في لوحة بكامل حلّتها السوداء، غير آبهة بالمسدس الذي تلوّح به. كما تتواجهان أيضاً في لوحة بالملابس ذات، يفصلهما إطار أشبه ما يكون بمرآة، تطل من ورائه المتشحة بالسواد وكأنها تحلم بأن تكون الأخرى، فيما تبعث الأولى نظرات الاستغراب إزاء الثانية. وفي مشهد آخر تقتربان من بعضهما في وضع الجلوس على كرسي، بالزّي نفسه، إذ تنهمك المتحرّرة في قراءة جريدة باستمتاع، فيما تتفحّصها المغمورة في «الشادور» بحسرة، وقد تم تكميم فمها بلاصق. هذا هو بعض الواقع الذي تنسخه الصورة الفوتوغرافية عند ليلى رحيميان، لتحقنها بجرعة أنثربولوجية، ولتضفي عليها في ما بعد شيئاً من بلاغة وشاعرية اللوحة، وإعادة تركيبها لتكون مألوفة ومؤانسة، وفي منأى عن التوظيف الأيديلوجي بمعناه المؤسسي، بمعنى إنتاج نص رمزي موازٍ لخطاب المؤسسة، بما يشكّله من سلطة جمالية، تقوم على تمثيل الواقع، وتعزيز قيم الوعي بالهوية الأنثوية، إذ تتعمّد تحويل المرأة إلى موضوع لإبراز حالة من المعاناة الجديرة بالانتباه، كما تستعرضها كقضية في لوحة لتولّد الكثير من الانزعاج والقلق، لإثارة الكائن الأنثوي المقهور وتحفيزه على التمرّد. ولا شك أنها تدرك معنى انتقال نصها البصري المدبّر بوعي أنثوي غريزي، من مستوى الهاجس الذاتي إلى منصة الإعلام، إذ يكتسب سلطة الفضاء. وهذا ما يمكن استشفافه واستقباله ثقافياً عند قراءة نواياها كمصوّرة، وكامرأة تسكن لوحة بكامل سربالها الأسود، فيما ترمق المتلقّي بنظرة ملؤها التحدي، وهي تقبض على حرف الياء خارج إطار الصورة، المنفصل والمتصل في آن بكلمة «آزادي» التي تعني الحرية، وكأن المجال الشبحي المرسوم فوتوغرافياً لذلك الكائن المتململ في قفص الوصايا، ينغسل من السواد، وينجز قفزته إلى البياض، أي خارج إطارٍ هو بمثابة سياج قامع ومحدّد لصورة ذهنية منمّطة إزاء المرأة يُراد لها أن تتهشّم. * ناقد وقاص سعودي.