بعد شهور من الهمود الذي شهدته ساحات الاحتجاج اليمنية ظن معها البعض أن الثورة الشبابية أحيلت نهائياً إلى المستودع السياسي، عادت الحياة أخيراً الى ساحات الحرية والتغيير في المدن اليمنية من خلال تظاهرات حاشدة وغير مسبوقة هي الأكبر حجماً منذ انتخاب الرئيس التوافقي عبد ربه منصور هادي في شباط (فبراير) الماضي. وبدأ يطرح تقويم نقدي جريء لواقع الثورة اليمنية كاشفاً، من دون مواربة، الوجه الآخر والمسكوت عنه في مشهد الانتفاضة اليمنية التي سعت على مدى 11 شهراً إلى محاكاة انتفاضتين شعبيتين أطاحتا رئيسي مصر وتونس، لكنها انتهت إلى اتفاق سياسي قضى بنقل الرئيس السابق علي عبدالله صالح صلاحياته إلى نائبه وتشكيل حكومة وفاق وطني ضمت المعارضة وأقطاب النظام السابق. وشهدت صنعاء الاثنين الماضي تظاهرة هي الأكبر والأكثر تنظيماً ضمت آلاف الشبان والشابات الذين رددوا شعارات تؤكد رفضهم عقد مؤتمر للحوار الوطني قبل إنجاز أهداف الثورة ومنها هيكلة الجيش، فيما شهدت محافظة تعز مسيرة راجلة سارت إلى مدينة المخا على ساحل البحر الأحمر. وتشي عودة التظاهرات الكبيرة إلى واجهة المدن اليمنية بأن استخدام الشارع في العمل السياسي السلمي التظاهري لا يزال ممكناً على رغم التناقضات الحادة بين أقطاب الطيف السياسي والانكماش الذي تشهده ساحات الاحتجاج نفسها، ما يعني أن فكرة التظاهر السلمي كوسيلة للتغيير تشهد نضوجاً على رغم انزلاق الحالة اليمنية إلى مربع العنف. بيد أن ذلك لا يعني تطوراً جوهرياً حملته الانتفاضة الشعبية في اليمن فالثقافة القديمة حاضرة بقوة وتلقي بظلالها على مسارات الرؤى والأفعال. وأكدت ورقة بحثية تضمنت مقاربة سوسيولوجية لخطابات ساحات الاحتجاج عجز ثورة الشباب اليمني عن إحداث انزياح كبير في الوعي في شكل يقطع تماماً مع الثقافة السياسية القديمة. وكشفت الورقة التي أعدها الباحث والناشط في ساحة التغيير جازم سيف عن أوجه قصور وتشوهات لازمت خطابات ساحات الاحتجاج على مدى ما يزيد على 14شهراً وطاولت مختلف المجالات بدءاً بخطاب المنصة والحشد للتظاهرات مروراً بالرموز والشعارات وليس انتهاء بطرق إدارة الشأن اليومي للمعتصمين. ولفتت الورقة إلى استمرار حضور المنزع الجهوي والمذهبي داخل فضاء الساحات وتكرس ذهنية الإقصاء والتخوين وحضور التأطير والاستقطاب الحزبيين والرشى السياسية. وكانت اللجان المنظمة للساحات تشكلت منذ البدء تبعاً لمبدأ التبعية لأحزاب اللقاء المشترك (تحالف المعارضة آنذاك) غير أن التناقضات ما لبثت أن برزت بين هذه المكونات في شكل يبدو أحياناً أكثر حدة مع تناقضها مع النظام. إلا أن استمرار قدرة اللجنة التنظيمية لساحة التغيير على تحريك مسيرات كبيرة على غرار مسيرة الاثنين الماضي يؤكد أن القدرة على الحشد لم تتلاش تماماً. إلا أنها صارت مجرد وسيلة وورقة سياسية بيد هذا الطرف أو ذاك أكثر منها تعبيراً عن هدف رئيس يرمي إلى تحقيق أهداف الثورة. يتزامن هذا مع استمرار تحريك مسيرات تناهض هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المكونة للثورة. ويرى الناشط والقيادي في ساحة التغيير ميزار الجنيد أن تحريك المسيرات بات محكوماً برغبات سياسية تسعى بعض الأطراف من خلالها إلى توجيه رسائل أو تسجيل حضور على الأرض. وما انفكت الصراعات داخل الساحات تحتدم لدرجة ممارسة العنف والتخوين. وقال الجنيد إنه جمد عضويته في اللجنة التنظيمية لساحة التغيير في صنعاء بسبب انتشار الفساد داخل اللجنة بحسب تعبيره. وتلفت ورقة سيف إلى مركزية في إصدار الأوامر في ما يخص الشأن الثوري في الساحات والى نكوصية انطوت عليها بعض الشعارات المرفوعة في الساحات ومنها شعار «لا حزبية ولا أحزاب ثورتنا ثورة شباب»، مؤكدة غياب الدور الثقافي في حفز الوعي الثوري. فحضور المثقف، بحسب الورقة، كان ثانوياً أو هو «ثائر من الدرجة الثانية». وترصد الورقة التي تعد الأولى من نوعها لجهة الكشف عن الوجه الآخر للثورة، عن جملة من المغالطات وأساليب التضليل والوشاية التي لا تمت بصلة إلى معنى الفعل الثوري أو تؤسس له.