قبل أيام انطلقت الانتخابات في خارج مصر لعدد 586 ألف مصري يعيشون في 166 دولة، وبعد أيام يتوجه الناخبون في الداخل لاختيار مرشحهم، وإذا كانت ثورة 23 يوليو 1952 قد أتت برئيس مصري - ولو على ظهر دبابة - لأول مرة منذ أكثر من 2500 عام، فإن ثورة 25 يناير مكّنت مصر من أن تختار رئيسها بمحض إرادتها وشروطها ومعاييرها لأول مرة منذ أكثر من 7000 عام. صحيح أن الفترة الانتقالية من رئيس مخلوع إلى رئيس منتخب طالت في نظر البعض، وظهر خلالها نقص في الثقة والأمن وزيادة في الشك والريبة، إلا أننا نجادل بأمرين: الأول، أن 18 شهراً بكل ما فيها من ارتباك وشبه فوضى ومرافعات ومدافعات وطعون قانونية هو أمر صحي يؤكد أن شعب مصر متحضر حتى النخاع. الأمر الثاني: أن المدة التي طالت في نظر البعض تعتبر قصيرة جداً في عمر الشعوب والأوطان المتحولة من نظام سياسي مستبد ومزمن إلى نظام ديموقراطي مستنير ومستقبلي. كانت المناظرة الأولى بين اثنين من المرشحين علامة فارقة في وعي مصر السياسي والإعلامي والثقافي. تلك المناظرة وغيرها من البرامج أثبتت أن المصريين يكتبون تاريخهم ومجدهم الحديث بأحرف عربية واضحة ستذكرها الأجيال القادمة، بعد أن كان تاريخ مصر مكتوباً بحروف هيروغليفية مدفونة في المقابر وتحت التراب. أبدعت الإعلامية منى الشاذلي وتفوق الإعلامي يسري فودة كعادتهما، في إدارة المناظرة، لكن الجائزة تذهب إلى ذلك المجهود الجماعي والفكر المستنير لقناتي «دريم» و«اون تي في» وصحيفتي «الشروق» و«المصري اليوم» في ريادة الإعلام الخاص لقيادة الإعلام المصري وإعادته إلى سابق عهده ومكانته. يقول مدير قناة «العرب» الإخبارية جمال خاشقجي في مقال تحليلي: «من تابع قناتي «الجزيرة» أو «العربية» في مصر مساء الخميس الماضي؟ بالتأكيد لا أحد، ذلك أن قناتين محليتين اتحدتا لنقل مباشر لأول مناظرة بين أبرز مرشحين للرئاسة التي ستُجرى بعد أسبوعين، ولم تستطع أي من الفضائيات العربية الإخبارية إقناع المرشحين بالتناظر من على منصتها». ويحلل الكاتب السبب بأنه «نتيجة طبيعية للتحولات التي طرأت ولا تزال على الإعلام العربي، في واحدة من أهم ارتدادات الربيع العربي، أهمها عودة المشاهدين إلى قنواتهم الوطنية والمحلية»، ويتابع: «اليوم، بدأت المحطات المحلية تستعيد مواطنيها من جديد، ذلك أن لديها الحرية الآن أن تنقل ما تشاء... في منتصف القرن الماضي، كانت القاهرة وبيروت مركزي الإشعاع والإعلام، الفن، التأليف، الصحافة، ما يروق لك وما تكره... ثم تراجعتا لأسباب عدة، أهمها اغتيال الحرية وصعود الأنظمة الشمولية، فحلّت محلهما دبي والكويت والرياض والدوحة وقبلها لندن وباريس... اليوم تعود الحرية إلى القاهرة... هذه الحرية هي ما وفرته تلقائياً الثورة المصرية...». قبل أن نذكر ملحوظاتنا على المناظرة الرئاسية نود أن نستكمل تحليلنا للمرشحين الأبرز حتى 12 أيار (مايو) 2012. إذ لا يزال الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح في مقدمة المرشحين (28 في المئة)، حامدين صباحي (16 في المئة)، أحمد شفيق (14 في المئة)، عمرو موسى (14 في المئة)، آخرون (10 في المئة)، الكتلة المتأرجحة (18 في المئة). ثلاثة أسباب رئيسية في تغيّر نسب المرشحين: الأول، اقتراب موعد الاقتراع. الثاني، تكثيف الحملات الانتخابية، أما السبب الثالث، والأهم، المقابلات التلفزيونية المكثفة لجميع المرشحين. نذكر أن قناة «سي بي سي» قامت بجهد كبير وممنهج للتعريف بالمرشحين عبر قواعد صارمة مع لجنة خبراء في6 محاور رئيسية، منها التعليم والصحة والسياسة الداخلية والخارجية والأمن والعشوائيات، إضافة إلى عشرات الأسئلة السريعة والخاطفة، كما اتبعت ذلك بأستوديو تحليلي لمدة ساعتين لتسليط الضوء على المرشح وأفكاره وشخصيته وبرنامجه. أما المناظرة بين الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح وعمرو موسى فكانت حديث المجتمع المصري والإقليمي والدولي، لكونها الأولى في تاريخ مصر والعالم العربي، وأيضاً، لحرفيتها وانضباطها. كان أبوالفتوح هو المتفوق في عموم المناظرة لثلاثة أسباب: الثقة بالنفس؛ الصدقية؛ الوضوح. على رغم بعض الملحوظات. كان عمرو موسى مرتبكاً في الجزء الأول من المناظرة، بينما كان أفضل في الجزء الثاني. صحيح أن عمرو موسى أخطأ في توصيف إيران على أنها دولة عربية، لكن أبوالفتوح أخطأ أيضاً في تاريخ حادثة أديس أبابا. نجح عمرو موسى في الجزء الثاني من المناظرة في استفزاز أبوالفتوح عبر الأسئلة الاستدراكية، كما انساق أبوالفتوح في الرد على تلك الأسئلة. استفزاز الخصم هي لعبة أصيلة في المناظرات الرئاسية. الأهم في المناظرة كان السؤال المباشر حول إسرائيل، هل هي عدو؟ كان أبوالفتوح واضحاً وصريحاً ومباشراً، أما عمرو موسى فاستخدم المراوغة واكتفى بأن إسرائيل تقوم بممارسات عدائية، وأضاف أن أكثر أو غالبية الشعب المصري يعتبرها عدو. هنا بدا واضحاً أسلوب عمرو موسى في معالجة الأمور القاطعة، على طريقة المثل الغربي «إذا لم تستطع إقناعهم اربكهم». يجادل كارل شميدت في كتابه المفهوم السياسيThe Concept» of The Political» أن أهم ما يجب على السياسي هو تحديد العدو لأن في ذلك تحديداً لهوية الدولة، وبتحديد العدو يمكن بناء الدولة على أسس واضحة لا لبس فيها، ولو أن عمرو موسى اطلع على العقيدة الإسرائيلية لوجد أن العرب بما فيهم مصر العدو الأول لإسرائيل من دون مواربة أو مراوغة. وفي مفهوم العدو لدى إسرائيل وشميدت أيضاً، لا ضرر أن تكون هناك اتفاقات هدنة وسلام وحتى تبادل منافع، لكن العدو في نظر علماء السياسة مختلف تماماً عن الخصم. إيران، على سبيل المثال، خصم وليست عدواً بالنسبة إلى دول الخليج، تقوم بممارسات عدائية ضد دول الخليج، فهل عمرو موسى يضع إسرائيل وإيران في كفة واحدة؟ أخيراً: بعد أقل من أسبوع ستشهد مصر «زفة الرئيس»، الانتخابات المصرية هي عرس الديموقراطية، ويبقى على من تقدموا لخطبة «المحروسة» أن يتقوا الله فيها وفي شعبها. لقد عانت مصر كثيراً وعانى شعبها أكثر، وهي وهم يستحقون أكثر مما هم فيه الآن. كل مرشح وضع برنامجاً فيه الكثير من الوعود التي لم ولا ولن تتحقق، على الأقل في المدى القريب أو المتوسط، ناهيك عن المئة يوم الأولى التي تم استيرادها من دول غربية عرفت الديموقراطية والاستقرار قروناً عدة. هناك ثلاث ملحوظات نأمل بأن يدركها الجميع: الأولى، أن أي مرشح اعتمد في برنامجه الهبات والقروض والاستثمارات برأسمال أجنبي، على الأقل في السنوات الخمس المقبلة، هو يرتكب جريمة في حق مصر والشعب المصري لسبب بسيط، هو أنه بذلك لا يسمح لهذه الدولة العريقة والشعب المكافح أن يتنسم ريح الحرية ويتسنم روح الاستقلال. هو بكل بساطة يرهن القرار المصري ويكبّل الاستقلال الوطني بقيود سياسية ولو اتخذت وجهاً اقتصادياً، لأن مصر عاشت طوال العقود الستة الماضية كواحدة من الدول الرضع «Incubator State»، وآن لها أن تستقل، وأن تعيد بناء نفسها بعقول وسواعد أبنائها وبناتها وإمكاناتها الذاتية رويداً رويداً في خطة استراتيجية شاملة تحقق رؤية مصر. الملحوظة الثانية، أن في نبرة ولغة كثير من المرشحين مصطلحاً سائداً لكنه بائد، ألا وهو «الزعامة». لقد استنزفت مصر نفسها وقوتها وإمكاناتها، وقبل هذا وذاك، سمعتها خلال ستة عقود في ملاحقة الزعامة في أفريقيا والشرق الأوسط والعالم العربي، وعاشت على ذكريات خيال أوروبي وغربي يرى في مصر والشرق روح الخيال والأصالة وربما الجذور للثقافات والحضارة، لكن الواقع يقول غير ذلك تماماً بالنسبة إلى المواطن المصري المنهك. على الرئيس الجديد أن يلتفت إلى مصر من الداخل ومن خلال حاجات المواطن المصري فالزعامة لا تطعم خبزاً. الملحوظة الثالثة، يعتقد بعض المرشحين ونعني هنا عمرو موسى تحديداً، كما سبق له وأن كرر في أكثر من مقابلة، أن كثيراً من الوعود الديبلوماسية في دعم من الشرق أو الغرب قد تأتي بمكالمة هاتفية أو غير مشروطة أو غير مقيدة للقرار المصري، ونقول له: «عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء»، أنت بذلك تقزم مصر الدولة والشعب لكي تختزلها في شخص، ثم أنه لا يوجد في السياسة أمر كهذا، «الغنم بالغرم». ختاماً: تحية إكبار للشعب المصري الذي ضحّى وعانى وصبر. حفظ الله مصر. * كاتب سعودي. [email protected]