مسرحية «شهرزاد ببعبدا» التي أعدّتها وأخرجتها زينة دكاش في إحدى قاعات سجن بعبدا للنساء، متعاونة مع خمس عشرة سجينة، لا يمكن إدراجها في خانة المسرح المحترف، على رغم بلوغها درجة عالية من الإبداع المسرحي، فالمسرحية تأتي في سياق المحترف الذي انطلقت به المخرجة والممثلة دكاش، المتخصّصة في علم النفس الكلينيكي، والهادف الى «المعالجة بالدراما»، التي تعدّ من الطرق الفنية–العلاجية المهمة التي تجمع بين التحليل النفسي وفن التمثيل المسرحي. وأصابت دكاش في تسمية المركز الذي تديره «كثارسيس»، فهي تستعيد من خلال هذه الكلمة، مقولة «الكثارسيس» الإغريقية التي تمثل إحدى غايات الفن المسرحي القديم، فاللحظة «الكثارسية» هي اللحظة التطهيرية كما فهمها رواد المسرح الإغريقي، اللحظة التي «يتطهر» فيها الممثل – بصفته كائناً– من كل ما يعتمل داخله من شرور وآثام وشجون وعقد. إلا أن مسرحية «شهرزاد ببعبدا» لم تسعَ الى خوض مجال «البسيكو–دراما» في معاييرها أو شروطها الصارمة، مع أن المخرجة أمضت أوقاتاً طويلة مع السجينات داخل السجن، تساعدهنّ على «إخراج» ما يخفين في بواطنهنّ من مكبوتات، دافعة إياهنّ الى حالٍ من التداعي الحرّ الذي يحررهن مبدئياً من تلك المكبوتات التي تجثم على صدورهن. وعندما أطلّت السجينات الخمس عشرة، في صورة شهرزاد المنقسمة على نفسها، أو المتشظية في وجوههنّ، بدت السجينات كأنهنّ ممثلات يدركن أنهن لسن ممثلات، وأن «الأدوار» التي يؤدينها ليست أدواراً حقيقية، وأنهنّ سيعدن الى أوضاعهن السابقة كسجينات في اللحظة التي ينتهي فيها العرض المسرحي «الكثارسيسي». وهنا يبرز طيف «التغريب» البريختي ولكن في سياق درامي علاجي، فالممثلات–السجينات سعين، وفق رؤية المخرجة، الى صدم الجمهور وتذكيره بواقعهنّ المأسوي وجعله شاهداً على هذا الواقع، الذي يطمحن إلى تغييره والثورة عليه. مونودراما جماعية لم تسعَ زينة دكاش وفريقها التقني الى إعداد نص بسيكو-درامي، بل هي عمدت الى جمع تداعيات السجينات وسبكها في «حوار» مونودرامي تتعاقب السجينات على أدائه، كلّ واحدة بدورها، ومن خلال إيقاع شامل ومتقطع، تساهم الإضاءة (السبوت) في ترسيخه مشهدياً... هكذا راحت تتوالى السجينات واحدة تلو أخرى، على سرد مآسيهن الصغيرة وقصصهن الأليمة والطريفة، والساخرة في أحيان. وبدت الصالة التي حررها الإخراج من صلابتها «السجنية» أشبه بصالة مسرحية، يحتل الجمهور وسطها الداخلي بينما تتوزع الممثلات–السجينات على جوانبها التي تحولت الى خشبة شبه مستطيلة، ولم تبدُ السينوغرافيا البسيطة غريبة عن الجو العام، فالضوء الأحمر مثلاً أوحى بالطابع الحميم الذي يطغى على العرض، النافذة مثلت الحلم بالحرية علاوة على كونها المنفذ الوحيد الى العالم الخارجي، الذي هو البحر حيناً أو المطار حيناً أو الشارع... ولم يغب طبعاً شباك الزنزانة الذي كانت تمتد منه الأيدي في لقطة جميلة، أو تطل من خلال قضبانه أسرّة السجينات وتنطلق أصواتهن و «ثرثراتهن» من ورائه... واللافت ان السينوغرافيا (الفقيرة) راحت تتشكل خلال العرض نفسه، فما ان تنتهي الممثلات من الكلام عن أشيائهنّ حتى ترتفع هذه الأشياء وكأنها علامات درامية: المسدس، الكمان، دفتر اليوميات، الفستان، علبة العصير، الصدَفة، الوردة... إنها سينوغرافيا متخيلة ترسم جزءاً من ذاكرة السجينات اللواتي استعدنها بغية التخلص من وطأتها. كرسي الاعتراف سجينات كأنهنّ أمام كرسي الاعتراف، يتحدّثن بجرأة عن أحوالهن الراهنة في السجن، وحياتهن البائسة وفقرهن وسأمهن والرتابة التي تملأ حياتهن المنهوبة وراء القضبان. ولا يتوانين عن استعادة «الأوامر» التي تُلقى عليهن: ممنوع، ممنوع، ممنوع... ثم يمعنّ في «فضح» آثامهن أو «جرائمهن»: المخدرات، السرقة، الدعارة، التي سمّتها إحدى السجينات ب «الزنى»، القتل... وتعترف إحداهن علناً: «أنا لست بريئة»، مدركة أن التداعي البسيكو–درامي يقتضي الاعتراف بالإثم وعدم إخفائه أو كبته... هكذا تحدثت السجينات بجرأة تامة، لم يكذبن ولم يهربن من ماضيهن الأسود، ولم يحاولن إخفاء قصصهن الأليمة أو تجميلها. تحدثت السجينات عن عائلاتهن، عن آبائهن القساة، عن أزواجهن، عن الدعارة، عن الفقر، عن الظروف التي دفعتهن الى ارتكاب الموبقات. لم يخفين أمراً. ماضيهن أصبح وراءهن ولا حاجة إلى إخفائه. والقصص في غالبها معروفة ورائجة في المجتمعات «السفلية» وفي البيئات المهمّشة والمحذوفة. وعمدت إحدى السجينات الى كتابة مذكراتها، يوماً تلو يوم... أما اللافت، فهو «التظهير» المشهدي لهذه التداعيات والقصص، فالمخرجة حوّلت هذه المونولوغات الى مشاهد بصرية ومسرحية، قدر إمكانها. ولعل مشهد «العروس» من أجمل المشاهد، بتعبيريته المؤثرة وجماليته الداخلية وطابعه التضخيمي (بارودي)... ناهيك بالرقصات والدبكة. وكانت المسرحية انطلقت أصلاً على وقع موسيقى كورساكوف (شهرزاد)، وأطلت السجينات بردائهن «الشهرزادي» (الفقير)، ولم تتوان السجينة فاطمة التي أدت دور «المهرّج» عن إعلان قيام «المملكة»، مملكة شهرزاد التي لا شهريار فيها... وفي الختام تخلع فاطمة قناع المهرّج الذي أجادت أداءه، فيظهر وجهها المشبع بالألم. وكم نجحت في الانتقال، خلال لحظات، من شخصية المهرّج الساخر واللعوب الى شخصية مأسوية. إنها مغامرة زينة دكاش الثانية في السجن، فالمسرحية الأولى أعدتها وقدّمتها في سجن رومية للرجال والأحداث كان عنوانها «12 لبناني غاضب»، أما المسرحية الجديدة فشاءتها «شهرزادية» في سجن بعبدا للنساء. عندما يغادر الجمهور السجن يخامره شعور بالألم، هو سيخرج الى الحرية التي تنشدها السجينات، أما هنّ فسيدركن للحين أن المسرحية لم تكن إلا مسرحية داخل السجن وأنهنّ لم يغادرنها إلا عبر التمثيل والخيال.