خام برنت يصعد 1.3% ويصل إلى 75.17 دولار للبرميل    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    6 فرق تتنافس على لقب بطل «نهائي الرياض»    ناتشو: كنا على ثقة أننا سنفوز على النصر    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    استقالة مارتينو مدرب إنتر ميامي بعد توديع تصفيات الدوري الأمريكي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بن غوريون ينقل الولاء من لندن الى واشنطن للحفاظ على زخم المشروع الصهيوني
نشر في الحياة يوم 16 - 07 - 2009

الحلقة الثانية الاخيرة من المحاضرة التي القاها وليد الخالدي في ذكرى مرور ستين عاماً على نكبة فلسطين، وهي تضيء الجوانب البريطانية والاميركية، والصهيونية بالطبع، لانشاء الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها.
مقاربة جديدة للمسألة التي لا تزال تؤرق العرب والعالم ، وربما تستمر لأجل غير معروف.
أدى القلق العربي، والخوف من الوطن القومي اليهودي الآخذ في التعاظم، والذي شهدت عليه لجان التحقيق الملكية البريطانية المتعاقبة، الى الانفجار الذي عبرت عنه ثورة 1936 - 1939 الفلسطينية. كما ان القمع الوحشي للثورة، الذي قام به الجيش البريطاني، والقتل والشنق والعقوبات الجماعية، وتفكيك المنظمات السياسية الفلسطينية، واعتقال القادة الفلسطينيين ونفيهم، وتجريد الفلاحين بإحكام منهجي من أسلحتهم، كل ذلك قلب جذرياً، والى غير رجعة، ميزان القوة لمصلحة «الييشوف» اليهودي.
ومع حلول عام 1939، كانت بريطانيا قد أنشأت جيشاً كولونيالياً يهودياً اضافياً (رديفاً للهاغاناه) مكوناً من 20.000 مقاتل، قامت بتسليحه وتدريبه وتوفير ضباط لقيادته، وذلك من أجل أن يعاونها على قمع الثورة الفلسطينية. وأطلقت على هذه القوة العسكرية اسماً باهتاً هو «شرطة المستعمرات اليهودية» Jewish Settlement Police-JSP، لكنها كانت في الحقيقة جيشاً اقليمياً Territorial بريطانياً نظامياً أنشئ على غرار الجيش الإقليمي في المملكة المتحدة المعد للتصدي لأي غزو للجزر البريطانية. هذا الجيش اليهودي الرسمي الجديد، مع اضافة جيش الهاغاناه السري «غير الرسمي» والمكون من 30.000 مقاتل، جعل «الييشوف»، البالغ تعداده حينئذ أقل من نصف مليون نسمة، واحداً من أكثر المجتمعات عسكرة في العالم.
وفي عام 1937 أوصت اللجنة الملكية برئاسة اللورد بيل Peel، للمرة الأولى، بتقسيم فلسطين الى دولة يهودية وأخرى عربية، على أن يضم شرق الأردن الدولة العربية اليه، ومثل أم الطفل الحقيقية أمام سليمان، اعترى الفلسطينيين غضب عارم على اقتراح تمزيق بلدهم، أججته توصية اللجنة ب «ترحيل» (ترانسفير) قسري للفلسطينيين من الدولة اليهودية المقترحة من أجل افساح المجال أمام مهاجرين يهود.
واستنكاراً لهاتين التوصيتين، اندلعت الثورة الفلسطينية مجدداً ضد بريطانياً وبلغت ذروتها في 1938 - 1939، غير ان اقتراح الترحيل القسري لاقى استحساناً شديداً لدى القيادة الصهيونية، وأثار شهيتها، وزاد من حدة ميلها الى تحقيق أهدافها بالإكراه. وفي الحقيقة، كان مفهوم «ترحيل» (تعبير مخفف عن الطرد) الفلسطينيين متداولاً في أروقة الصهيونية قبل فترة طويلة من اقتراح لجنة بيل، كما وثّق ذلك نور مصالحة في كتابه «طرد الفلسطينيين...» (عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت 1992). وهناك دليل على أن لجنة بيل ناقشت موضوعي الترحيل والتقسيم مع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن سراً، قبل أن تنشر اللجنة تقريرها، وأنه هو الذي أوحى لها بهما.
استمر مفهوم الترحيل في احتلال مكانة بارزة في التفكير الاستراتيجي لدى النخبة العسكرية والسياسية في «الييشوف» - كما لا يزال مستمراً حتى اللحظة في تفكير كثير من الإسرائيليين. ومما لا شك فيه أن فكرة الترحيل - كما يوضح ذلك كتاب إيلان بابه في الموضوع - كانت في صلب تطبيق «الخطة دالِتْ» خلال القتال في حرب 1948 بعد أن قدم قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 للصهيونية الحجة الزائفة للادعاء أن ما تقوم به إنما هو دفاع عن النفس.
كانت احدى السمات الأساسية للسياسة البريطانية في فلسطين تعليق الديموقراطية وكل ما يمت الى الحكومة التمثيلية بصلة. ولم يكن ذلك مجرد سمة من السمات المعتادة التي اتصفت بها السياسات الكولونيالية في كل مكان، بل كان بالتأكيد جزءاً لا يتجزأ من صميم تكوين الوطن القومي اليهودي وتطويره. ولا يخفى على أحد أن تجاهل «رغبات وتحيز العرب» الذي أشار اليه بلفور في عام 1919 مؤداه تجاهل «رغبات وتحيز» الغالبية الساحقة من سكان فلسطين من العرب. وهكذا، فإن الدولة (اي اسرائيل) التي لا يكل الساسة في العواصم الغربية اليوم عن امتداحها بصفتها «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» ولدت في فلسطين بالضبط من خلال قبر الديموقراطية ريثما يتم تحقيق غالبية مصطنعة من طريق هجرة قسرية لملايين اليهود من وراء البحار الى البلد. وفي عام 1935، صوّت أقدم البرلمانات (القابع في لندن)، بغالبية ساحقة ضد اقتراح لوزارة المستعمرات البريطانية يقضي بإنشاء مجلس تشريعي في فلسطين كان من شأنه أن يوفر مجرد شبه بعيد بحكم تمثيلي، وذلك خشية احتمال أن يؤثر سلباً في نمو الوطن القومي اليهودي المضاد، حكماً، للديموقراطية.
V
بعد أن قمعت بريطانيا الثورة الفلسطينية التي قامت ضد التقسيم والترحيل القسري، شرعت في إعادة النظر في مجمل سياستها في فلسطين. ومع تزايد النذر باقتراب الحرب العالمية الثانية، تزايد الشعور لديها بأن دعمها الصهيونية سيكون له تأثير سلبي في علاقاتها بالعالمين العربي والإسلامي. بناء على ذلك، دعت بريطانيا في سنة 1939 إلى مؤتمر في لندن حضره مندوبون من الأقطار العربية ومن فلسطين وقادة صهيونيون، واجتمعت الحكومة البريطانية بكلا الطرفين على حدة.
بعد انتهاء المؤتمر أصدرت الحكومة البريطانية وثيقة حددت فيها سياستها المقبلة تجاه فلسطين (الكتاب الأبيض لعام 1939)، وتضمنت وضع سقف للهجرة الجماعية إلى فلسطين ولانتقال الأراضي الفلسطينية إلى أيدٍ صهيونية، كما تركت الباب مفتوحاً أمام فلسطين موحدة، أي غير مقسمة، إنما مرهونة برضى الطرفين. وكانت تلك محاولة بريطانية متأخرة جداً لأن تكون «متوازنة». لكن «التوازن» البريطاني، وقتئذ كما هي الحال الآن بالنسبة إلى أي «توازن» أميركي إن وُجد، ليس هو ما يُطرب الصهيونية. وكان الكتاب الأبيض بداية الافتراق بين لندن و «الييشوف».
إن احدى السمات المميزة للصهيونية كحركة قومية هي اعتمادها على عرابين كولونياليين وسهولة تخليها عن عراب ما وانتقالها إلى آخر.
بعد فترة وجيزة من صدور الكتاب الأبيض في عام 1939، التقى بن غوريون وزير المستعمرات البريطاني مالكولم ماكدونالد. وفي أثناء النقاش العاصف بينهما، سأل ماكدونالد بن غوريون إلى متى تستطيع بريطانيا، في اعتقاده، حماية «الييشوف» بالحراب البريطانية، وكان جواب بن غوريون أن «الييشوف» ما عاد بحاجة إلى حراب بريطانيا. وعندما قال ماكدونالد إن جيشاً عراقياً نظامياً يمكن أن يهاجم «الييشوف» من ناحية الشرق أجاب بن غوريون: «عبور البحر أسهل من عبور الصحراء». وكان بن غوريون يقصد بقوله هذا بالطبع، الجماعات اليهودية ما وراء البحار، وخصوصاً تلك الموجودة في الولايات المتحدة.
لم يطل الوقت حتى استبدل «الييشوف» بريطانيا بالعراب الجديد: الولايات المتحدة، وتكرس الانتقال رسمياً في «برنامج بلتمور» Biltmore لعام 1942. وقد عُرف البرنامج بهذا الاسم لأن إعلانه تم في فندق بلتمور في نيويورك، في اجتماع عام، عقد بناء على طلب من بن غوريون، وضم جميع القادة اليهود الأميركيين.
وطالب البرنامج بهجرة جماعية يهودية غير مقيدة إلى فلسطين، بعد الحرب العالمية الثانية، بإشراف المنظمة الصهيونية العالمية حصراً، وبإعلان فلسطين بأسرها «كومنولثاً» يهودياً - وهذه تسمية مشفرة ل «دولة يهودية». أما مغزى البرنامج فكان حرباً سياسية معلنة ضد بريطانيا، وحرباً كلية ضد الفلسطينيين.
كان برنامج بِلْتمور عملاً استراتيجياً فذاً من جانب بن غوريون. فهو ألزم المؤسسة اليهودية الأميركية ومواردها بتأييد مسار صدامي مع بريطانيا والفلسطينيين، وفي الوقت نفسه عالج نفور هذه المؤسسة من هجرة جماعية يهودية ضخمة بعد الحرب إلى الولايات المتحدة نفسها خوفاً من هيجان المشاعر اللاسامية الكامنة لدى الأغيار الأميركيين.
عُقد مؤتمر بلتمور في أيار (مايو) 1942، قبل أن تظهر التفصيلات المروعة للهولوكوست في تشرين الثاني (نوفمبر) من تلك السنة. وما إن عرفت هذه التفاصيل حتى استغلها خصوم بن غوريون المحليون في «الييشوف»، في اليمين «التصحيحي» Revisionist، ولا سيما امتداداته الإرهابية المتمثلة في عصابتي الإرغون وشتيرن، من أجل تصعيد العداء ضد بريطانيا كي يحرجوا الحركة العمالية بزعامة بن غوريون ويزايدوا عليها.
في عام 1944 تزعم الإرغون قائد جديد مناحِم بيغن، البولندي الآتي من برست - ليتوفسك. وكان بيغن قائد «بيتار» BETAR، المنظمة التصحيحية شبه العسكرية في وارسو، لكنه هرب من المدينة عند اقتراب الجيش الألماني منها. وقد اعتقله الروس بعد هروبه فية عام 1939، وأفرجوا عنه في عام 1941، في من أفرج عنهم من البولنديين بعد الهجوم الألماني العام على الاتحاد السوفياتي. ووطئت قدماه أرض فلسطين للمرة الأولى في أيار 1942. وتولى بيغن قيادة الإرغون ليبدأ العمليات العسكرية ضد البريطانيين بناء على طلب وفد من اليهود التصحيحيين الأميركيين جاء إلى فلسطين لهذا الغرض.
وهذا ما فعله بيغن في شباط (فبراير) 1944، في وقت كانت القوات البريطانية تقاتل الفرق المدرعة النازية في ليبيا وتونس وإيطاليا، وتتأهب للنزول على شواطئ النورماندي. واستمرت العمليات الإرهابية ضد البريطانيين بوتيرة متصاعدة، ومن دون هوادة، حتى انتهاء الانتداب البريطاني في أيار 1948.
قبل عام 1944، كان الإرهاب اليهودي موجهاً حصراً ضد المدنيين الفلسطينيين، ولا سيما في الفترة 1937 - 1939. وخلال تلك الفترة أدخل الإرهاب اليهودي إلى الشرق الأوسط للمرة الأولى التكتيك الشيطاني المتمثل في وضع ألغام موقوتة في مواقف الباصات العربية، وأسواق الخضار والمقاهي، ومتفجرات مخبأة في صفائح كيروسين، وأوعية حليب، وسلات فواكه، تنفجر بفعل صاعق كهربائي.
واعتباراً من عام 1944 فصاعداً، راحت الإرغون وشتيرن تستخدمان هذا التكتيك ضد أهداف بريطانية، مع تطوير أدوات أكثر تنوعاً وتعقيداً وأشد فتكاً.
VI
لا مجال هنا للدخول في تفصيلات تسلسل الأحداث التي أدت إلى تخلي بريطانيا المخزي عن القيام بالمسؤوليات المتوجبة عليها في فلسطين، لكن الشخص المركزي بلا منازع في هذه الأحداث هو زعيم «الييشوف» دافيد بن غوريون الذي كان من دون شك القائد السياسي الأقدر والأكفأ بين قادة الشرق الأوسط كافة في الأربعينات والخمسينات.
برع بن غوريون في تحديد أولوياته، فلم ينجرف مع الإرغون وشتيرن في هجماتهما ضد البريطانيين لأنه أدرك بحدسه وبصيرته أن العدو الحقيقي لم يكن بريطانيا، وإنما الفلسطينيين والعرب. ومع التزام المؤسسة اليهودية الأميركية برنامج بلتمور، كما أسلفنا، أصبح البريطانيون، بالنسبة إلى بن غوريون، عنصراً فائضاً عن الحاجة، وعقبة كأداء يجب إزاحتها من دربه.
في هذه الأثناء، كانت قوة «الييشوف» العسكرية تعاظمت كل التعاظم، إذ تلقى نحو 25000 يهودي من فلسطين منذ عام 1939 تدريباً عسكرياً نظامياً في الجيش البريطاني في مصر، الذي كان يُعد للتصدي للقوات الألمانية الزاحفة عبر ليبيا نحو السويس. وهكذا في عام 1945، لدى نهاية الحرب العالمية الثانية، دقّت الساعة لإقامة الدولة اليهودية، على أوسع رقعة ممكنة من تراب فلسطين. وكان لا بد من طرد بريطانيا من فلسطين، لكن ليس بعمل عسكري مباشر تقوم به القوات اليهودية «الرسمية» (الهاغاناه) تحاشياً لصدام عسكري مدمّر لها مع الجيش البريطاني المرابط في البلاد.
واشتملت استراتيجيا بن غوريون الفذّة لإخراج بريطانيا من فلسطين على:
أولاً : تعبئة المؤسسة اليهودية الأميركية لتوجيه ضغط مثابر على واشنطن كي تقوم هذه بدورها بتوجيه ضغط مثابر على لندن.
ثانياً: هجرة يهودية غير شرعية ضخمة من أوروبا لبقايا الجاليات اليهودية فيها بتمويل أميركي يهودي لكسر قيود الكتاب الأبيض (1939) المفروضة فيه على الهجرة، وإرباك حرس السواحل التابع لإدارة الانتداب البريطاني، وإنهاك الأسطول الملكي في البحر الأبيض المتوسط الخارج من الحرب منهكاً أصلاً.
ثالثاً: حملة دعائية عالمية للتشهير ببريطانيا بحجة أنها تمنع من دون شفقة أو رحمة وصول «الناجين» من المحرقة النازية إلى شواطئ فلسطين، التي صُوّرت على أنها المكان الوحيد في هذا العالم الواسع الشاسع القادر على قبولهم واستيعابهم.
رابعاً: صوغ خطة «تقسيم» لفلسطين قائمة على برنامج بلتمور إياه من أجل كسب دعم الرئيس الأميركي الجديد غير المنتخب هاري ترومان، الذي شغل البيت الأبيض في إثر وفاة فرانكلين د. روزفلت في عام 1945، والذي كان يواجه انتخابات رئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1948.
وأخيراً، غض النظر عن تصعيد عصابتي الإرغون وشتيرن حملتهما الإرهابية الضارية ضد بريطانيا لدفعها أكثر فأكثر في اتجاه المخرج (Exit) من فلسطين.
حققت استراتيجيا بن غوريون نجاحاً باهراً، وطُردت بريطانيا طرداً، وذُلّت إذلالاً من جانب رضيع تبنّته حتى كبر واشتد ساعده تحت حماية حرابها.
وتضمنت الابتكارات الإرهابية اليهودية المتفشية الآن في الشرق الأوسط في ما تضمنت ضد الجيش والإدارة البريطانيين في فلسطين، طروداً بريدية ملغومة، وعربات مفخخة بالمتفجرات، وحقائب سفر مفخخة، ورسائل بريدية ملغومة. وبحسب صحيفة «التايمز» اللندنية، أرسلت خلال عام 1947 الرسائل المفخخة (التي جرى اعتراضها من جانب سكوتلانديارد) إلى كل من: إرنست بيفن وزير الخارجية، أنتوني إيدن وزير الخارجية السابق، السير ستافورد كريبس وزير التجارة، جون ستراشي وزير التموين، آرثر غرينوود الوزير بلا حقيبة.
وشملت الابتكارات اليهودية الإرهابية أيضاً: أخذ ضباط بريطانيين في فلسطين رهائن، وجلدهم بالسياط (لأول مرة في تاريخ الجيش البريطاني على امتداده)، وخطف رقباء عسكريين وشنقهم، وتفخيخ جثثهم المعلقة بحبال الشنق (أيضاً لأول مرة في تاريخ الجيش البريطاني المديد).
وكان العقلان المدبران لهذه العمليات، مناحم بيغن وإسحاق شامير، وقد أصبح كلاهما لاحقاً رئيساً لوزراء إسرائيل – منارتين ونموذجين مثاليين للتسيبيين (نسبة الى تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل) والبيبيين (نسبة الى بيبي نتانياهو) الذين حياهم جورج دبليو بوش وغوردون براون في خطابيهما في الكنيست لمناسبة الذكرى الستينية لتأسيس إسرائيل.
كان عديد الجيش البريطاني في أعوام الإنتداب الأخيرة 100.000 جندي، أي: محارب واحد بريطاني نظامي متمرس بالقتال في الحرب العالمية الثانية في مقابل كل 3 أشخاص بالغين في «الييشوف» (البالغ عدده وقتئذ 625.000 شخص). وكان في وسع هذا الجيش سحق الإرغون وشتيرن والهاغاناه معاً بسهولة فائقة، لكن يديه كانتا مكبلتين إلى حد كبير من جانب هاري ترومان سلف جورج دبليو بوش في البيت الأبيض. واللافت أن ما بين عام 1945 وقرار التقسيم لعام 1947، كانت نسبة قتلى البريطانيين في مقابل قتلى الإرهابيين اليهود 4/1، أو 170 بريطانياً عسكرياً ومدنياً في مقابل 44 يهودياً إرهابياً. وهذه نسبة لا مثيل لها عبر التاريخ في الحروب الكولونيالية كافة، كما نعرف جيداً من أحداث غزة الأخيرة.
كان قرار التقسيم الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمثابة الضوء الأخضر للقوات اليهودية باحتلال البلاد. وما تلاه لا يمكن وصفه بأنه عمليات عسكرية لجيش ضد جيش آخر. لم يكن هناك جيش فلسطيني. وعلى الجانب اليهودي، لم يكن هناك مجرد جيش وإنما «أمة زاحفة» على غرار أراغون وكاستيل (قشتالة)، متجهة ل «استرداد» ما اعتبرته أرض «أسلافها» من «الغرباء» الفلسطينيين المقيمين فيها بصورة «غير شرعية» وفقاً للأوامر العملانية في «خطة دالت»، ووفقاً لخطة «إلهية» بحسب جورج دبليو بوش وغوردون براون.
من سخرية الأقدار – بل أم السخريات – أن بن غوريون أمضى عام 1916 باحثاً في تاريخ فلسطين – ويا للعجب – في المكتبة العامة (New York Public Library) في نيويورك. وكان من أهم الاستنتاجات التي خلص إليها نتيجة أبحاثه، أن الفلاحين الفلسطينيين هم الذرية الحقيقية للعبرانيين القدامى.
* مفكر فلسطيني، والنص في الأصل محاضرة ألقاها بالإنكليزية في مؤتمر جمعية الطلبة الفلسطينيين الذي عقد في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS التابع لجامعة لندن، لمناسبة مرور 60 عاماً على النكبة، وعنوانه «ستون عاماً من الاستلاب والمقاومة». وسيُنشر النص أيضاً في العدد المقبل (78) من «مجلة الدراسات الفلسطينية» الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ترجمة: أحمد خليفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.