عندما وقف فلاديمير بوتين على منصّة الاحتفال ليعلن فوزه بغالبية مطلقة، تهدّج صوته فجأة، وسالت على خديه دمعتان اثارتا اهتمام المصورين والاعلاميين. والسبب انه خلال فترة حكمه كرئيس جمهورية ورئيس حكومة، اعطى الانطباع بأنه رجل غليظ القلب مثل ستالين، يصعب عليه ذرف الدموع. لذلك اتفق المعلقون على تفسير هذه المخالفة بأنها اعتذار علني وفعل ندامة تجاه شعب حكمه طوال 16 سنة بالتزوير والترهيب. لهذا فاجأته النتيجة غير المتوقعة (64 في المئة)، خصوصاً عندما ادعى انصاره بأن موجة الصقيع وحدها مسؤولة عن سقوط دمعتين باردتين. كل هذا، لأن سلوكه الاجتماعي كان جزءاً لا يتجزأ من الاسطورة التي بناها حول ماضيه وحاضره. ويستدل من طبيعة المغامرات الجريئة التي تعمد إظهارها في مختلف وسائل الاعلام، انه انسان بارع في أداء وظيفته منذ اختارته موسكو عميلاً لجهاز الاستخبارات (كي جي بي) في برلينالشرقية. وقام بدوره المنتظم طوال فترة الحرب الباردة. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي، سارع بوتين الى خلع رداء الشيوعية والانضمام الى الرئيس الثمل بوريس يلتسن. ثم اقتنص فرصة التحولات، ليفاخر بمعموديته وأرثوذكسيته وصداقته لبطريرك موسكو الراحل الكسي. في كتابها المثير للجدل، حرصت الفتاة المعارضة ماشا جيسن، على كشف الكثير من الجوانب الخفية التي ساهمت في ترسيخ حكم بوتين. وقسمت كتابها الى ثلاثة فصول تحمل عناوين مختلفة: فصل السرقات وفصل الحقارات، وفصل السموم. وتدّعي هذه الكاتبة الروسية ان بوتين عمل على تنظيف مؤسسات الدولة من سارقي ايرادات النفط، ولكنه شخصياً استولى على نصيب كبير من ثروات الدولة، وإنما بوسائل قانونية. وفي الفصل الثالث تزعم انه قلد طرق ستالين وبيريا لتصفية خصومه ومعارضي حكمه. ولكنه استخدم سلاح السم بدل الرصاص. وهكذا قضى على النائب الليبرالي يوري ششكوشيكين وأناتولي سوبتشاك وألكسندر ليتفننكو، الذي أدت وفاته الى ازمة مع بريطانيا لأن عملية دسّ السم أُجريت في لندن. حظي بوتين بشعبية واسعة بين الروس، في اعقاب عملية حصار مدرسة بيسلان عام 2004 التي نفذها شيشانيون وسقط خلالها 334 قتيلاً نصفهم من الاطفال. وكانت تلك الحادثة بمثابة اختبار لسلطته منذ اختاره يلتسن خلفاً له. وخاطب بوتين المواطنين بثقة وجرأة، مؤكداً ان فراغ الحكم لن يحصل في عهده. وحذر معارضيه مهدداً بأن محاولات الخروج على القانون ستجهض بحسم. وهذا ما فعله مع الانفصاليين الشيشان الذين قاموا بسلسلة تفجيرات استهدفت مؤسسات الدولة والابنية السكنية. وقد وصفهم في حينه بالارهابيين متعهداً للشعب بأنه سيلقي بهم في المرحاض. وعندما شنت الصحف الغربية ضده حملة قاسية بسبب اعتقاله قطب النفط ميخائيل خودركوفسكي، تجاهل كلامها وقال في ذلك: «ان اللص مكانه السجن». ومع ان المعلقين ربطوا قرار الاعتقال بإصرار المتهم على خوض المعركة السياسية ضد بوتين، إلا ان المحكمة عاقبته بسبب عمليات غسل اموال والتهرب من الضرائب. عندما تولى بوتين منصب رئاسة الحكومة، توقع المراقبون ان تقود ازدواجية الحكم الى صدام بينه وبين صنيعته السياسي الرئيس ديمتري مدفيديف. ولكنه بخلاف هذه التوقعات، لم يحدث ان تجاوز بوتين حدود سلطاته، واكتفى بممارسة هوايات ومغامرات لم يكن في مقدور صديقه رئيس الجمهورية تطبيقها. ويستدل من الصور التي توزعها وكالات الأنباء، ان بوتين حريص على ابراز قدراته غير السياسية، بهدف التأثير في مشاعر الناس العاديين. مثال ذلك انه يهوى توزيع صور رحلات الصيد مع الوحوش البرية التي توجد في روسيا كالدب القطبي ونمر الثلوج. وفي تلك الرحلات يحب بوتين عرض عضلاته وهو يمتطي الحصان كاشفاً عن صدره العاري. وفي احدى المرات ظهر وهو يقود غواصة نووية في اعماق بحر الشمال، كما شارك في رحلات غوص خطرة في بحيرة «البايكل» وخليج «تامانسكي» على البحر الاسود. ولم تقتصر مغامراته على قيادة الطائرات والغواصات، وانما تعدتها للمشاركة في سباقات السيارات السريعة «فورمولا واحد». كل ذلك بحيث يكسب شعبية، وتبقى صورته في أذهان الناس. وقد سئل مرة وهو يتحدث عن رحلة تعقب الحيتان في البحار الباردة، عن الهدف من وراء هذه المخاطرات، فأجاب: الحياة كلها مخاطرة، يا صديقي! والثابت ان هواية الاستعراض والتباهي اصبحت هواية مغرية بالنسبة الى عميل سري عاش مدة طويلة متخفياً في برلينالشرقية. ومع انه امر عام 2008 بإقفال الصحيفة التي كشفت عن علاقته العاطفية ببطلة الجمباز الينا كابيفا، الا ان إظهاره في شكل «دون جوان» زمانه، امر لم يغضب سوى زوجته الوفية ليودميلا. وقد اضطرت للخروج عن صمتها عندما علمت ان إلينا قد انضمت الى الحزب الذي يتزعمه زوجها، وانها دخلت البرلمان من طريق تشجيع بوتين ودعمه. في مطلق الاحوال، يرى انصار بوتين ان الحكم على عهده يجب ان يكون من خلال ولايته الجديدة، كونها تمثل المعيار الصحيح الذي يحب «القيصر الاشقر» ان يختتم به حياته السياسية. خصوصاً انه دشن هذه الولاية بإرسال وزير خارجيته سيرغي لافروف الى المنطقة على امل ايجاد حلول مقبولة للأزمة السورية. ولكنه اتبع هذه المحاولة بإعلان ما سبق وذكره في مناسبة اخرى من ان الدول الغربية متهمة بالوقوف الى جانب المعارضة السورية والتخلي عن نظام بشار الأسد. ثم كرر اتهامه للغرب بتأجيج الازمة عبر المساعدة على تسليح من وصفهم ب «المتمردين» على النظام. أي انه اطلق على انصار «المجلس الوطني السوري» الوصف الذي اطلقه على انفصاليي الشيشان الذين عاقبهم بقسوة، وقدم لهم «المراحيض» كحل نهائي! وهذا معناه ان موسكو ستعارض أي قرار يقضي بتسليح المعارضة السورية، إن كان عبر قرارات مجلس الامن ام عبر جامعة الدول العربية. وقد اعلن لافروف اثناء محادثاته في المنطقة، ان بلاده تتمسك بموقفها المبدئي الذي يساوي في المسؤولية بين السلطة والمعارضة. وقد فسر برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري موقف روسيا، بأنه ضوء اخضر لدعم نظام بشار الأسد... وتأييد كامل لمهمة استخدام الجيش في عمليات قمع المتظاهرين. وبما ان عدد الجيش النظامي يزيد على نصف مليون جندي، مزودين بأسلحة ثقيلة استعداداً لخوض حرب مع اسرائيل... فإن عمليات سحق المعارضة ستستأنف من جديد بهدف اقناع واشنطن وحليفاتها بأن دور روسيا المعطل سيبعث من جديد. في هذا الاطار، يمكن النظر الى الموقف الروسي تجاه النظام السوري كموقفه المؤيد للنظام الايراني. لهذا حذر الغرب من مغبة ضرب المفاعلات النووية الايرانية، خوفاً من تدفق النازحين الى المناطق المجاورة... بل خوفاً من إشعال حرب اقليمية يصعب تقدير تبعاتها. حدث اثناء الإعداد لانتخابات الرئاسة في روسيا، ان وزع انصار بوتين منشورات تحمل خريطة الاتحاد الفيدرالي الروسي مقسماً الى 25 جزءاً، ثم اتهموا المعارضة الموالية للغرب بأنها تتآمر لتقسيم روسيا مثلما تتآمر المعارضة في الشيشان وسورية لتقسيم هذين البلدين. واعتبر بوتين في احد خطبه الانتخابية، ان المتظاهرين ضده يمثلون الطابور الخامس الموكل اليه مهمة تفكيك روسيا وتعبيد الطريق امام اجتياح قوات الناتو لها. وعندما سأله رئيس تحرير صحيفة «التايمز» البريطانية جيمس هاردنيغ عن خلافه مع ادارة اوباما، اجابه بوتين بأن الدرع الصاروخية الاميركية تستهدف قوة الردع النووية الروسية. واعترف بأن مباحثاته مع اوباما ساعدت على انضمام موسكو الى منطمة التجارة العالمية، والى توقيع معاهدة خفض الاسلحة النووية، ولكنها لم تقنع واشنطن بتقديم ضمانات خطية لموسكو، تؤكد فيها ان نظامها الصاروخي لا يستهدف بلادنا. يختلف المعلقون على صدقية اعلان المواقف المعادية للولايات المتحدة، وما اذا كان توقيتها مرتبطاً بانتخابات الرئاسة فقط. ويرى بعضهم ان اللهجة الحادة التي تعاطى بها الرئيس بوتين مع الدول الغربية، كانت نابعة من حاجته الى تأجيج المشاعر الراكدة. وهذا ما يفسر إصراره على تقديم دوره كمدافع عن روسيا في وجه الاعتداءات الخارجية. بل هذا ما يفسر استخدامه حق الفيتو في مجلس الامن، لأنه «لن يخون روسيا مهما بلغ عدد القتلى في سورية»! وبناء على هذا التصور، يجد فلاديمير بوتين اوجه شبه بينه وبين بشار الأسد. ذلك ان كليهما يرى نفسه ضحية مؤامرة خارجية، كما يقول الكسندر شوميلين، الخبير في شؤون العالم العربي. وعليه تعيد الانتفاضة السورية الى اذهان الروس صورة الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا. ولكن الديبلوماسيين الروس المطلعين على تفاصيل الملف السوري، لا يصدقون نظرية المؤامرة، ويعتبرون توقيت اعلانها مجرد خطاب اعلامي يراد من ورائه استقطاب الناخبين. في حين ان الزيارة السابقة التي قام بها الى دمشق وزير الخارجية سيرغي لافروف ورئيس الاستخبارات ميخائيل فرادكوف لم تتطرق الى هذا الموضوع. وإنما تركزت على ضرورة مفاوضة المعارضة في حال تفاقمت الاوضاع الامنية، واضطرت روسيا الى نقل بشار الأسد وعائلته خارج البلاد. يقول خبراء الاقتصاد العالمي، ان الولاياتالمتحدة تسعى حالياً الى زعزعة الثقة بالدولة الروسية، قبل ان تتفق مع الصين على إنشاء كتلة من دول آسيوية وشرق اوسطية يمكن ان تشكل عائقاً للتمدد الاقتصادي الغربي. صحيح ان ارتفاع اسعار النفط قد افاد روسيا وإيران... ولكن الصحيح ايضاً ان حكومة بوتين اتفقت مع الشركات على تجميد اسعار مشتقات النفط بهدف تفادي الاضرابات والاضطرابات، وبما ان التوقعات الاقتصادية في روسيا مرتبطة بالوضع السياسي والامني، فإن الدلائل الاجتماعية تشير الى احتمال ازدياد عدد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية. ومثل هذه الاعمال ستعزز مخاوف المستثمرين وتضاعف حجم الاموال المهربة الى الخارج، والتي قدرت السنة الماضية بأكثر من 84 بليون دولار. وفي هذا السياق، يعترف وزير المال الروسي السابق الكسي كودرين بأن الدولة في عهد الرئيس بوتين، ستضطر الى التعامل مع مشاكل اقتصادية معقدة تتطلب نفقات كبيرة من موازنة يصعب عليها تأمينها. لهذا السبب وسواه يرى المراقبون ان بوتين استخدم السياسة لتأمين فوزه في انتخابات الرئاسة... وأن اوباما قد يستخدم الاقتصاد الروسي لزعزعة الثقة بإمراطورية وهمية يسعى بوتين الى انتشالها من تحت أنقاض الاتحاد السوفياتي. * كاتب وصحافي لبناني