من ناحية أعمالها الإبداعية، من المعروف عادة ان «بين الفصول» كان آخر كتاب وضعته فرجينيا وولف. وفي اعماقه كان هذا الكاتب اشبه بوصية تعبق بالكآبة. ويؤكد هذا ان الكاتبة فيما كانت تنجز الفصل الاخير من هذا العمل، احست اذ جاءت الحرب لتضع الشرط الانساني امام امتحان عسير، ان هناك «شعوراً بالاضطهاد وبالخطر والرعب» يأكل مصير الفرد في هذا الكون. ولأن فرجينيا لم تعد قادرة على احتمال هذا كله، ولأن الماء كان في «الامواج» وفي «غرفة يعقوب» وفي «النزهة الى المنارة» صنو عذابها اليومي في حركته المتكررة الى الأبد، اختارت فرجينيا ذات يوم ربيعي من العام 1941، لتضع في لجة الماء حداً لحياتها... فطواها الماء وطوى معه عذاباتها... كما طوى الجنون الذي كانت تخشى، دائماً، الوصول اليه... على هذا النحو تنتهي مسيرة حياة فرجينيا وولف، احدى اكبر الكاتبات الانكليزيات خلال النصف الاول من القرن العشرين. لكن ما ليس دقيقاً في هذا الوصف هو القول بأن «بين الفصول» كان آخر ما كتبت... لأن هذا معناه نسيان واحد من اهم اعمال فرجينيا وولف على الاطلاق، العمل الذي ظلت تكتبه يوماً بيوم طوال النصف الثاني من حياتها، وكانت آخر سطور دونتها فيه، هي تلك التي حملت تاريخ الثامن من آذار (مارس) من عام موتها 1941... أي قبل ايام قليلة من انتحارها. وهذا العمل هو، بالطبع، «يوميات كاتبة»، الذي يتألق في مسودته التي تركتها فرجينيا من 26 كراساً، لكن ما نشر منها خلال السنوات القليلة التالية لحياتها لم يتجاوز الأربعمئة صفحة... - كان آخر مقطع دونته فرجينيا في يومياتها، هو ذاك الذي دونته يوم أحد وجاء فيه: «عدت هنا بعد محاضرة ل. في برايتون. لقد وجدناها مدينة غريبة. انه اليوم الاول من ايام الربيع. رأينا النساء جالسات على المقاعد العامة. شاهدت قبعة جميلة في صالون الشاي. آه كم ان العالم يحرك النظر. وفي الصالة كل اولئك النسوة داخلات في اهداف الزمن المغلقة، متبرجات مقنعات كالجثث (...). لا... ليست لدي أية افكار خلفية تدفعني الى سبر الاغوار، كل ما في الامر انني اتذكر وأحفظ عبارة هنري جيمس «أرصدوا ما حولكم في شكل متواصل. ارصدوا قدوم العمر»... وأنا نفسي ارصد انهياري الخاص. بهذه الطريقة كل شيء يمكن ان يكون مفيداً... او هذا ما آمله على الاقل. لذا احاول ان التقط من الزمن افضل ما يعطيه (...) لنفترض انني حصلت على اشتراك في متحف، وانني اذهب الى هذا المتحف كل يوم على دراجة هوائية، وأقرأ كتب التاريخ. ولنفترض انني اختار من كل مرحلة شخصية مهيمنة اكتب عنها وحولها. من الضروري للمرء ان يشغل نفسه بشيء ما. وفي هذه اللحظة، ادرك، بمتعة، ان الساعة بلغت السابعة، وان عليّ ان احضر العشاء (...)..». بعد هذا المقطع، الذي اجتزأنا منه خلاصته، لم تكتب فرجينيا وولف شيئاً، بل «كتبت» آخر سطر من حياتها واختارت موتها. - حين ماتت فرجينيا وولف منتحرة، كانت الحرب العالمية الثانية على اشدّها، وكان احد بالكاد يلتفت الى موت احد... ومع هذا ودّعتها بريطانيا والاوساط الادبية خير وداع... باعتبارها صاحبة روايات كبيرة وصاحبة معاناة اكبر، كما باعتبارها عضواً في جماعة بلومبسبيري الادبية التقدمية، التي لعبت دوراً في الفكر الانكليزي الليبرالي اوائل القرن العشرين. ومنذ رحليها والنقاد والمؤرخون يكتبون عنها، يحللون اعمالها، ويربطونها بحياتها. ولكن، منذ نشرت اجزاء «اليوميات» تبدلت الامور كثيراً. ذلك ان هذا العمل الذي وضعه الباحثون في مصاف يوميات كبار الكتاب، من دوستويفسكي الى هنري جيمس، عرف كيف يسلط اضواء جديدة، وغالباً مفاجئة على روايات الكاتبة نفسها... بالنظر الى ان فرجينيا وولف كانت اعتادت ان تكثر من تدوين صفحات في يومياتها، حين تكون منكبّة على كتابة رواياتها، تحديداً، ومن هنا شكلت اليوميات اطلالة اخرى وعميقة على الدوافع والظروف وضروب التطور التي واكبت، او استبقت كتابة فرجينيا لأعمال كبيرة لها مثل «مسز دالاواي» و «غرفة يعقوب» وغيرهما، ما جعل العمل على هذه الروايات يبدو على شاكلة «عمل قيد التحقق». - غير ان هذا ليس كل شيء هنا... ذلك ان يوميات فرجينيا وولف تأتي لتضيء ايضاً على حقبة كاملة من تاريخ المجتمع والحياة الثقافية في بريطانيا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وطوال عقود من بدايات القرن العشرين... وفي هذا الاطار ترتدي هذه اليوميات اهمية فائقة، باعتبارها «وثيقة» حول انكلترا، حول الحياة الثقافية والاجتماعية منظوراً اليها انطلاقاً من حي بلومبسبيري الذي اعطى اسمه للانتلجنسيا الانكليزية في سنوات العشرين. وهذا كله يأتي من المذكرات، على خلفية نظرة تلقيها الكاتبة وتعكس تاريخها الفكري الخاص خلال سبع وعشرين سنة. وهكذا اذا كانت «يوميات كاتبة» تتيح للقارئ ان يتابع ولادة اعمال فرجينيا وولف ويدرك مدى العذابات التي كانت تعيشها هذه الكاتبة في كل مرة كانت تلد عملاً من اعمالها، فإنها - أي هذه «اليوميات» - هي ايضاً صورة لقراءاتها، هي التي كانت تملأ كل ساعات فراغها بالقراءة لتسجل بعد ذلك انطباعاتها عن كل ما تقرأه... ومن هنا تحفل اليوميات ايضاً باستعراض ثاقب - ومختصر في معظم الاحيان - لأعمال تنتمي الى آداب العالم كله، في مجالات الشعر والفلسفة والرواية والفنون... ولعل ما يجدر ملاحظته هنا، هو ذلك التفاوت في الحماسة بين الصفحات الاولى من اليوميات والصفحات الاخيرة، ما يكشف ايضاً عن التطور التراجعي الذي طاول، مع مرور السنين، انهماك فرجينيا وولف في شؤون الحياة والأدب والفكر... اذ في الصفحات الاخيرة، وبعد «موضوعية» الكراسات الاولى في سنوات الخلق والتلذذ بمراقبة العالم وما يدور فيه، نصبح امام يوميات تبدو كاتبتها امرأة تعبة، يتزايد انغلاقها على داخل ذاتها، فاقدة الاهتمام بأي شيء. وكأن تعاسة الكون وقعت فجأة فوق رأسها. وهي لا تعامل هذه الوضعية هنا بالحزن... فالحزن قديم وأصيل فيها يغلف منذ البداية كل شيء. شعورها الآن هو اللامبالاة... واذا كان في وسعها ان تنتظر شيئاً، فإنها لم تعد تنتظر سوى جديد يخرجها من الرتابة الى عالم فسيح آخر. ولا شك في ان هذا الجديد ما كان بالنسبة اليها سوى الموت... والماء كصنو للموت. وعلى هذا النحو نلاحظ في الصفحات الاخيرة خوفاً حقيقياً من ان الوقت لن يسمح لها بعد الآن بقول كل ما كانت تريد، بعد ان تقوله. وهكذا نشعر بقوة، وتشعر هي قبلنا - طبعاً - ب «دنو المرض والموت منها». ويصبح من المنطقي ان نقرأ لديها فقرات مثل: «أجل... ان هذا ما افكر فيه، اننا نعيش من دون مستقبل. وهذه هي غرابة الامر، اذ نبدو كمن يطرق انفه على باب موصد». غير ان وعيها لهذه الحال لديها يبدو متضائلاً ومن هنا نجدها تتساءل (7 شباط/ فبراير): «لماذا تراني محبطة الى هذا الحد؟ لم يعد في وسعي ان اتذكر. ذهبنا لمشاهدة تشارلي شابلن (...) لكننا وجدناه مهلكاً مضجراً مثل تلك الفتاة التي تحمل إناء الحليب». - كانت تلك، إذاً، احوال آخر السنوات في حياة فرجينيا وولف (1882-1941) الروائية الانكليزية الاشهر في القرن العشرين، والتي هجست بالجنون والمرض والموت، منذ سنوات مراهقتها الاولى، اذ فقدت امها وأباها وأخاها المفضّل توبي، تباعاً... فلم تبرأ من هذا كله ابداً، حتى وان كانت وضعته داخل رواياتها الكبيرة، ما عنى، خلال حقبة ما من حياتها ان الادب شكّل ترياقا لها... غير ان الترياق لم يدم مفعوله طويلاً... اذ سرعان ما عادت الى كآبتها، التي راحت تبث اسرارها في هذه اليوميات التي بدأت تدوينها في العام 1915، وتعتبر خير مدخل لدراسة هذه الكاتبة، وأعمالها وزمنها. [email protected]