«ما يهمني هنا هو ان أروي لك، كيفما اتفق كل ما يحدث معي، سواء أكان ذا أهمية أم لا، ويوماً بيوم إن كان هذا في مستطاعي، على طريقة الكابتن كوك، الذي يكتب انه شاهد هذا اليوم طائر نورس أو بطريقاً، لكنه في اليوم التالي لم ير سوى جذع شجرة عائم، واصفاً كيف ان البحر كان هنا هادئاً صافياً، وهناك عكراً. لقد فعل هذا، لكنه عبر هذه الإمارات العابثة، عبر هذه الأمواج المتغيرة، كان يحلم بجزر مجهولة ومعطرة، لينتهي به الأمر الى أن يصل ذات مساء في انطواءاته، الى حب خالص وجمال خالد». بهذه العبارات التي تتصدر كتابه الأشهر «رحلة الى الشرق» عبر جيرار دي نرفال عن علاقته بهذا الكتاب، وعن الرغبة التي كمنت لديه خلف وضعه. وكان قد سبق لهذا الكاتب، الذي عاش مأساة غرام انتهت بموت حبيبته أوريليا، أن كتب في واحدة من صفحات الرواية التي كرسها لحكاية الغرام هذه: «الى أين أنت ذاهب؟ قال لي. - الى الشرق! وفيما كان هذا الشرق يرافقني، رحت أبحث في السماء عن نجمة كنت أعتقد أنني أعرفها، كما لو كان لها تأثير ما في مصيري. وإذ وجدتها، تابعت سيري في الاتجاه الذي كانت تبدو لي فيه مرئية، - سائراً - إن جاز لي القول - نحو مصيري». بالنسبة الى مؤرخي الأدب من الذين اهتموا أكثر ما اهتموا بأدب الرحلات الذي كثرت آثاره، لأسباب رومنطيقية غالباً، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تختلف رحلة دي نرفال الى الشرق عن بقية الرحلات التي قام بها كتاب مواطنون له أو أوروبيون. ذلك ان رحلة دي نرفال كانت أبعد ما تكون عن ذلك البعد المادي والاستكشافي الذي طبع رحلات الآخرين. فهو كان هارباً من مأساته، راكضاً وراء مصيره في رحلته الشرقية، ولم يكن ليسعى الى تأكيد شيء أو التعرف الى أي شيء. من هنا، حتى وإن بدت رحلته منتظمة في خط سيرها - طالما ان هذا الأمر بالذات لم يكن في يده -، فإنها بدت عشوائية في توجهها العام، وفي النظرة التي راح دي نرفال يلقيها على ما حوله طوال زمن الرحلة ومسافاتها. لم تكن رحلة دي نرفال الى الشرق أولى رحلاته، فهو كان بعد في أواسط العشرينات من عمره حين بدأ يتجول في أوروبا، وحده حيناً، وفي رفقة الكسندر دوماس في أحيان أخرى، لكن تلك الرحلة الشرقية كانت الأوسع في حياته والأطول. وكان دي نرفال الذي وصل فيينا أواخر عام 1839 قد ارتبط هناك بحلقة أصدقاء من بينهم فرانز ليست. وهو، لكي يعيش تعاون مع بعض الصحف النمسوية، غير انه بعد شهور اضطر الى العودة الى باريس، سيراً على الأقدام تقريباً، بسبب إفلاسه. وفي عام 1941 بدأت تصيبه أولى أزمات الجنون الذي سيصاحبه طوال الخمسة عشر عاماً المتبقية من حياته. وهكذا، إذ ماتت صديقته جيني كولون أواخر عام 1842، راح يتنقل هائماً على وجهه فتوجه الى مرسيليا ومنها الى مالطا، ومن هنا ركب البحر الى الاسكندرية التي اقام فيها أسبوعين قبل أن يتوجه الى القاهرة حيث أقام ثلاثة أشهر توجه بعدها الى دمياط ومن هناك الى بيروت، ماراً بيافا فعكا. وهو أمضى في بيروت شهراً ونصف شهر لم يمنعه مرضه خلالهما من القيام برحلات الى المناطق الجبلية. ثم واصل تجواله فوصل القسطنطينية حيث أقام بضعة شهور عاد بعدها الى مالطا فنابولي... * وأخيراً حين وصل الى باريس مجدداً عكف على كتابة نص رحلته على شكل حلقات صغيرة بعنوان «ذكريات الشرق» وكان ذلك في عام 1844. وفي عام 1848 نشر جزءاً أول يضم تلك الحلقات تحت عنوان «مشاهد من الحياة الشرقية: نساء القاهرة». غير ان الكتاب لم يحقق الصدى المطلوب، إذ إن فرنسا كانت في ذلك الحين تعيش ثورة عارمة. وفي عام 1850، وبعد ان نشر بعض أعماله الأدبية والمسرحية، عاد دي نرفال ونشر جزءاً ثانياً من رحلته الشرقية بعنوان: «مشاهد من الحياة الشرقية: نساء لبنان». وفي العام التالي اتخذ العمل كله شكله النهائي تحت عنوان «رحلة الى الشرق». وبدأ الاهتمام بالكتاب يتجدد والإقبال عليه يتزايد ليتخذ حياته الخاصة بعد ذلك، ويصبح واحداً من أشهر كتب دي نرفال. لكن الكاتب لن يتمتع بثمرة ذلك النجاح طويلاً، إذ انه، على رغم مواصلته الكتابة، غرق في المرض والجنون ليموت أول عام 1855 موتاً عنيفاً: إذ وجد فجر يوم 26 كانون الثاني (يناير) مشنوقاً في شارع جانبي في باريس. صحيح ان دي نرفال كان، طوال رحلته الشرقية، لا يتوقف عن معاناة أزماته الصحية والعقلية، غير ان هذا بالكاد يبدو من خلال نصوص الكتاب. فالكاتب يسجل بدقة ووعي كل ما يراه وكل ما يحدث معه: لقد آلى على نفسه أن يراقب كل شيء وأن يرصد الحياة التي تدور من حوله. ان ما يراه يختلف تماماً عن كل ما كان خبره في حياته. فهنا، ها هو إزاء عالم غريب، مدهش، يختلط فيه القديم بالجديد، والمدينة بالريف، والطوائف بالأديان، والداخل المحرم بالخارج المباح. وهذا كله يجعل دي نرفال شديد الحساسية أمام التفاصيل الصغيرة، أمام كل رائحة يشمها، وأمام كل تفصيل صغير يراه. بل ان مخطط جولاته، التي تبدو وكأنها ظاهريا تخاض كيفما اتفق، تبدو شديدة الأهمية. وفي هذا الاطار يحدثنا الباحث المعاصر دومنيك شيفالييه عن كيف ان دي نرفال، في تجواله في بيروت مثلاً، لم يسلك الطريق المعهودة التي كان يرسمها غيره من الرحالة، إذ ينطلقون من المرفأ وصولاً الى الداخل، بل فعل العكس: انطلق من الدخل من أعلى المدينة ليصل الى المرفأ. وراح في حركته الهبوطية يرصد مزاجية الناس وتغيراتهم. بل إنه في طريقه يقدم لنا ما يكاد يشبه تقارير استخباراتية، مثلاً، حين يلتقي ب «مراسل» انكليزي سرعان ما يشتبه في كونه، أصلاً، جاسوساً لبلاده... ويروح هذا يحدثه عما هو مقبل على هذا البلد من حروب أهلية تدعم دول الخارج خلالها الطوائف، بمعدل طائفة لكل دولة... ومن هنا يتخذ الكتاب سمات متعددة في الوقت نفسه، فهو رصد اجتماعي وسجل سياسي وتاريخي، ووصف جغرافي - اجتماعي - ديموغرافي، في الوقت نفسه الذي يبدو فيه على شكل رحلة تعليمية هروبية في آن معاً، تقوم بها روح الكاتب الهائمة المشردة التي تبدأ تجوالها من دون أن تعرف الى أين سيقودها. ولعل الأهم في هذا كله هو أن دي نرفال لا يبدو صاحب أفكار مسبقة عن هذه المنطقة من العالم، يريد ان يجمع من الأدلة ما يبرهن على صحتها، كما كانت حال لامارتين أو شاتوبريان أو غيرهما. فإذا كان هؤلاء، في رأي النقاد «غير قادرين خلال تجوالهم ورصدهم على الخروج من شرنقة رجال القرن التاسع عشر الفرنسيين، فجاؤوا هنا لكي يتحققوا فقط من صحة أحكامهم المسبقة على الشرق»، فإن دي نرفال يبدو رحالة نزيهاً، فضولياً... لذلك بدلاً من أن يشهد وينبهر، ها هو يرى ويندمج، من دون أن يفقد حس التحليل العقلاني. كذلك فإن دي نرفال لم يكن «مثل فلوبير، راكضاً وراء مواد تساعده في أعماله الأدبية». كان فقط مثل سابح ماهر ألقى نفسه في الماء من دون هدف إلا الإحساس بعذوبة الماء وغرابته وجماله. ولد جيرار لابروني (الذي سيتخذ لنفسه وقد جاوز العشرين اسم دي نرفال) عام 1808 لأب جنوبي وأم شمالية. وقد تلقى الفتى تعليمه في باريس حيث كان من بين رفاقه تيوفيل غوتييه. وبدأ باكراً بكتابة محاولات ادبية. وفي عام 1828 انجز ترجمة ل «فاوست» غوته ادخلته الحلقات الأدبية، فراح ينشر ويرتبط بصداقات. وهو عاش لأدبه ومن أدبه خلال العقود الثلاثة التالية، وقام برحلات عدة. ومن أشهر مؤلفات دي نرفال: «اوريليا» و «المركيزة فابول» و «لوريلي» و «بنات النار» و «الأوهام»... وكان جزء «أوريليا» آخر ما صدر له إذ صدر الجزء الأول قبل موته بثلاثة أسابيع، والثاني بعده بأسبوعين ونصف الأسبوع... عام 1855. [email protected]