ربما كانت قصيدة وليام بتلريتس «القدوم الثاني» هي أكثر القصائد اقتباساً في هذا الزمن، وثمة سبب وجيه لهذا، وهو أن صورة العالم الآخذ في التفكك، الذي يخضع لقوى عاتية، تخاطب ما نحس به من مخاوف الآن، هذه القصيدة نراها متجلية في كتاب «السير الوئيد نحو عمورة أو تدهور الليبرالية الأميركية» للمؤلف الأميركي روبرت ه . بورك، والذي ترجمه إبراهيم محمد إبراهيم وصدر أخيراً عن المركز القومي المصري للترجمة. تأتي أهمية هذا الكتاب من أنه ليس من الكتب التي تشرح معنى الليبرالية الكلاسيكية التي نادى بها أناس أمثال موتيسكيو وسميث وجيفرسون ولوك باعتبارها حركة فكرية واقتصادية تدعو إلى الحرية والمساواة، ذلك أن بورك يحاول في هذا الكتاب أن يكشف أن الليبرالية الحديثة التي لا تعرف حدوداً للمطالبة بالمزيد من الحقوق والحريات هي التي ستتسبب بانهيار أميركا، كما يعبر عن اعتراضه عليها وعلى من يمارسونها وينادون بها، فهو يحاول هدم وتفكيك ما يثور في المجتمع الأميركي من أمور يرى أنها من نتاج أتباع الفكر الليبرالي. ما الذي يقصده الكاتب باستخدام هذا المجاز التوراتي وتوظيفه؟ ما هي عمورة العصر الحديث؟ وكيف تسير إلى حتفها وئيداً وئيداً؟ بنى المؤلف عنوان كتابه على مجاز استمده من قصيدة للشاعر الإرلندي ويليام بتلر بيتس في عنوان: «المجيء الثاني»، تتحدث عن التوجه نحو بيت لحم، أي الإيمان، أما روبرت بورك فيرى أن أميركا تسير نحو عمورة. إن عمورة في العهد القديم هي من المدن التي حكم عليها بالدمار نتيجة لما ارتكبه أهلها من مفاسد وخروج على الفطرة الإنسانية ومنظومة القيم السماوية التي أتى بها العهد القديم. ويرى روبرت بورك أن مصيراً مظلماً ينتظر أميركا نتيجة لإيغالها في السلوك الليبرالي وتطرفها في ممارسات مختلفة في الاقتصاد والرعاية الاجتماعية والممارسات الطبية من إباحة الإجهاض والتجارب على الأجنة والقتل الرحيم ومساعدة المرضى الذين لا رجاء في شفائهم، على الانتحار. والكتاب لا يرى أن هذا المصير سيحيق بأميركا وحدها، بل بالغرب عموماً بسبب تدهور الليبرالية وصعود اليسار الجديد. ويرجع هجومه على الليبرالية إلى ما يرى أنه تطرف في المساواة وتطرف في النزعة الفردية والإشباع الذاتي، وتحرر المرأة. يعود بورك إلى ستينات القرن العشرين ليعيد قراءة ما سمي في ذلك الوقت ب «ثورة الطلاب» التي بدأت في فرنسا 1968 والتي تحالف فيها الطلاب مع العمال من أجل تفكيك القيم اليمينية المتطرفة التي تتحيز ضد الفقراء ولا تؤمن بالحريات والمساواة. ينتقد بورك تلك الفترة ويرى أن «الليبرالية الحديثة أشبه بالفاشية حين استحوذت على مؤسسات مهمة مثل الجامعات». وربما نتفهم مبرر بورك في الهجوم على الجامعات وثورة الطلاب، لأن هؤلاء كانوا من منتقدي الحرب الأميركية على فيتنام، تلك الحرب التي سقطت فيها منظومة القيم الأميركية، بخاصة بعد أن عرفت ممارسات الجيش الأميركي ضد الشعب الفيتنامي، وبورك من مؤيدي هذه الحرب ومن المدافعين عنها. يتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء. ويبدأ الجزء الأول من هذا الكتاب بفصلين عن عقد الستينات، لأن هذا العقد أدى باتجاهات كانت تتطور في أميركا وغيرها من الأمم الغربية إلى الذروة، ذلك أنه كان عقداً مسيساً: «من المهم أن نفهم ما كان يعنيه الاضطراب الذي حدث في الستينات، لأن الثقافة التي كانت ظاهرة حينذاك هي ثقافة الليبرالية الحديثة التي توجد اليوم. وقد يكون من المستحيل معرفة ما ستقودنا إليه تلك الثقافة، ومن المستحيل القيام بتخمين قائم على معرفة من دون فهم القوى التي أطلقها العقد الذي غيَّر أميركا». الفصل الأول عنوانه «الغزو الرأسي للهمج»، وحين نوغل فيه يتكشف لنا أن مصطلح الهمج إنما عني به فورة أو ثورة الطلاب الذين خرجوا للتنديد بغزو فيتنام، ويرى أن هذه الفورة لم تكن مرتبطة بالحرب على فيتنام التي يدافع عنها ضمناً، بل يرى أنها كانت سمة هذا العصر ويستشهد بثورة طلاب فرنسا: «يعزو الكثير من الناس فورة الطلاب، والعصيان المدني، والعنف الذي ساد في الستينات إلى حرب فيتنام. أثناء الفترة نفسها شهدت بلدان أخرى لم تكن متورطة في الحرب الفيتنامية، مثل فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، أعمال تمرد طالبية خطيرة، ففي فرنسا اقترب الطلاب من قلب الحكومة كما فعل المتطرفون في الولاياتالمتحدة، إذ يبدو أن الاضطراب كانت له صلة باتجاهات بلغت ذروتها في جيل معين في الديموقراطيات الغربية أكبر من صلتها بالحرب». يكشف ممارسات ذلك الشباب المدمر المتطرف الذي وصفه بال «همج»، شباب عقد الستينات، فنجده في الفصل الثالث المعنون ب «البحث المحموم عن الحرية والبحث عن السعادة»، يرى أن هؤلاء الشباب غالوا في تبني هذه المفاهيم، ومن ثم تعالى صوت الليبرالية: «إن الليبرالية تتحرك نحو الفردية المتطرفة، وفساد المعايير التي تنبع من تدمير العادات التقليدية والاجتماعية للناس، ويتحول وعيهم الجماعي الطبيعي إلى مكونات فردية، من طريق السماح بآراء أكثر حمقاً، ومن طريق التعليم بالتدريب وتشجيع المهارة بدلاً من الحكمة، والنجم البازغ بدلاً من الشخص المؤهل، إذ يمكن الليبرالية أن تمهد الطريق لنقيضها: أي التحكم الآلي المصطنع الذي يعد علاجاً يائساً لما تتسم به من فوضى، والفوضى التي لا يمكن أن تتحكم فيها سوى الحكومة، تنتج حين تنهار وتزول مصادر السلطة الأخرى». يتكون الجزء الأول من ستة فصول، أما الجزء الثاني فيتألف من تسعة فصول وفيه يتحدث المؤلف عن انهيار الثقافة الشعبية، وضرورة الرقابة على الفنون التي تشكل الوعي الأول للمجتمعات، كما يتحدث عن انتشار الجريمة والإنجاب غير الشرعي وغياب الرعاية الاجتماعية، كذلك يتحدث باستفاضة عن القتل من أجل الإراحة والإجهاض، والمساعدة على الانتحار والقتل الرحيم، وسياسة الجنس وهجوم مساواة المرأة المتطرف على الثقافة. وتحدث كذلك في هذا الجزء عن العنصرية والتدين وانهيار الفكر، ونالت مفاهيم النسوية وحرية المرأة والمساواة بينها وبين الرجل اهتمامه، لكنه لم يتبنَّ هذه المفاهيم أو ينحاز إليها. وفضلاً عن ذلك، انتقد الكتاب معطيات الليبرالية من حرية وسعي حثيث نحو السعادة والمساواة، وكذلك فعل في مفاهيم حرية المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل: «إن حرية المرأة المتطرفة هي أكثر الحركات التي انحدرت إلينا من فترة الستينات، فهذه حركة ثورية، وليست إصلاحية، وتلقى نجاحاً لا يستهان به. وبما أنها شمولية من حيث الروح، فهي معادية في شكل عميق للثقافة الغربية التقليدية. فحركة التحرير والمساواة المتطرفة للمرأة اليوم هي النظير الأنثوي لما ساد في الستينات من تطرف/ ذلك أن برنامج الحركة النسائية في معالمه الرئيسية هو نفسه ما كان في بيان بورت هورن». وفي الجزء الثالث والأخير يقدم المؤلف عناوين فصلية على هيئة أسئلة، عن الحكم الديموقراطي وهل يمكنه أن يبقى، وعن أميركا وهل يمكنها أن تتحاشى مصير عمورة؟