هناك اختلاف ملحوظ بين رواية حمدي الجزار الأولى «سحر أسود» (ميريت،2005)، وروايته الثانية «لذاتٌ سرّية» (الدار، 2008). في النص الأول، ظل حمدي مشدوداً إلى أجواء رواية التعلُّم التي يستكشف فيها الراوي أسرار الجنس وطبائع المرأة، وهو يتطلع إلى غزو العالم عبر تأكيد الرجولة والفحولة، وملاحقة مشاهد المجتمع من وراء الكاميرا التي يعتمدها بعمله في التلفزيون. وذات ليلة يتعرّف على امرأة أكبر منه سناً وأوسع تجربة، هي فاتن الطبيبة المطلقة العائدة من الخليج إلى القاهرة، العارفة ما تريد، وتحرص الى أن تستدرك معه ما فاتها وهي إلى جوار زوجها المهتم بجمْع المال. تجربة السارد ناصر وعشيقته فاتن، في «سحر أسود»، تبرز الكابوس الذي ينغص حياة الشباب والنساء في مجتمع يلجم التعبير عن الرغائب والعواطف والغرائز في واضحة النهار؛ من ثم يتبوّأ الجنس مكان الصدارة في الحياة ويصبح التعلق به ضرْباً من التعويض عن بقية عناصر التوازن في الحياة. وإذا كانت «لذات سرية» تستحضر أيضاً أجواء القاهرةالمدينة العملاقة، المتشظية، وأبناء الطبقة المتوسطة المتلهفين على المتع والمغامرات السرية فإنها، على خلاف «سحر أسود»، توسع دائرة الشخوص وفضاء الأمكنة، وتستثمر موهبة الكاتب في الوصف وقدرته على السرد الجامع بين التشويق وتكسير بنية الزمن الخطي، المتدرج. تحتوي « لذاتٌ سرية «على أربعة أقسام معنونة : يوم وليلة، الأمس، خروج، غد. ويعتمد النص على بنية مفتوحة، إذ ينطلق من حاضر يتمثل في لقاء السارد ربيع الحاج مع سيمون المومس ذات المزاج الخاص والمزهُوّة بأمجادها في أفلام البورنو. ثم يرتدّ السرد إلى الأمس، إلى الماضي ليرسم علائق السارد بالأسرة ، وبزوجته عفاف، وحادثة غرق ابنهما في البحر، ومشاهد من طفولة هنيّة. وفي القسم الثالث، يعود السارد إلى الحاضر ليصف الحياة اليومية في حيّ الجيزة الذي يسكنه، ويتوقف عند انفجار مروّع حدث أثناء ما كان هو مريضاً لا يكاد يصحو من النوم، جراء إفراطه في الشرب والأكل والجنس مع سيمون. وينتقل إلى الحديث عن مرض ابن المعلم فرج وموته، وقرار صديقه حارث بالسفر إلى أميركا للالتحاق بصديقته. وتأتي الصفحات الأخيرة «غد»، لتحكي عن استئناف ربيع لحياته العادية السابقة، مذيعاً يستعدّ لتقديم نشرة السابعة صباحاً. الانتقال من الحاضر إلى الماضي ثم العودة إلى الحاضر والإطلال على الغد، هو بمثابة تأطير زمني لحياة ربيع الحاج، وكأنّ الكاتب يريد أن «يؤرخ» روائياً لشابّ ينتمي إلى طبقة متوسطة ويعيش في الجيزة التي اتسعت أرجاؤها، ويبحث عن توازن لحياته التي زعزعها عنصر مأسوي يتمثل في مرض الأم المزمن، وفقدان الابن، وانفصام العلاقة المعنوية والجسدية مع الزوجة. لذلك نحس أن الروائي تحوّل إلى عين راصدة تتابع المسار الذي يقطعه ربيع الحاج على طريق التعلم واستكشاف ملذات سرية يقتطفها خارج حرم الزوجية والمواضعات الاجتماعية. ما الذي جعل ربيع يهجر الزوجة، ويقلع عن السلوك اللائق بابن طبقة وسطى لينغمر في عشق امرأة متزوجة من ضابط متنفذ يهدد حياته؟ من خلال السرد والمشاهد، يبدو أن البُعد المأسوي المتصل بفقدان الابن ومرض الأم، ورحيل الأب إلى الخليج، هو عنصر أساس وراء «انحراف» ربيع الحاج. لكن ما يتفوّه به صوتُ السارد، يثير الانتباه إلى وجود بذرة تمرّد في أعماقه، تجعله ينجذب إلى مغامرات الحب والجنس مُتحدياً التقاليد والمحرمات. كأنما يستشعر جوعاً لا ترويه سوى المغامرة خارج أسيجة المباح، هرباً من ثقل اللامفهوم والعبثي والمقدور: «هنا، بينهم الآن، أفكر في كل هذا لأنني لن أستطيع أن أجرع المزيد من كأس صحبتهم. أنا آكل الدقائق والساعات أكلا، بشفتي وأسناني، بجلدي وسمعي وبصري (...)» (ص60). من هذا المنظور، يبدو ربيع في تدفقه السردي غير مهتم بتحديد العوامل الموضوعية، والدوافع النفسية، وإنما هو يستحضر ما وعتهُ الذاكرة واختزنتهُ العينُ، وكأنه يبحث عن معنى أو مخرج تصبح حياته معهما ذات التحام وتناسق. وفي ما يسرده عن الطفولة والأسرة وتجربة الزواج، يتبدى الأفق مغلق المسالك لأن البُعد المأسوي يضع على عاتقه عبئاً لا يستطيع أن يزحزحه. وعلى مستوى علاقاته العاطفية والجنسية، يكتشف ربيع، بالصدفة، أن حبيبته نشوى متزوجة من ضابط يعرفه، فتنقلب متعة الحب وخلوات الجنس إلى سيف مصلت على رقبته يتهدده في كل حين: «الجرثومة الغالية التي نتجتْ عن لقائي بنشوى، عن لقاء نشوى بي، تتجوّل في الشرايين والأوردة والدم واللحم، وتنشر ضوءها الأبيض داخله كله، فيشعّ، ينير ويتوهج (...) لكن القلب ضعيف، الجسد واهن والروح صغيرة. الواحد بما أنه بشر، لا يقوى على احتمال المزيد من المتعة والجمال، لا يقوى على الحب. لا يقوى على مواصلة الطريق إلى نهايته، وليس من سبيل عند الوصول إلى الذروة الصغرى سوى محاولة مريرة للخلاص، تدمير الذات إرادياً، تدمير نفسه بنفسه، لصالح نفسه». (ص 88). على هذا النحو، يغدو أفق تحقيق الذات وتوازنها مُغلقاً أمام ربيع الحاج؛ ولكن الحياة مستمرة ويجب أن تستمر، لذلك يختار الكاتب في القسم الأخير «غد»، أن يصور في اقتضاب أحوال السارد وقد قرر أن يعاود الاندماج في الواقع المُتاح الملائم لشروطه الاجتماعية والتعليمية، فيلتحق بعمله في الإذاعة. لعل نهاية النص هذه، هي التي تسعفنا على الإمساك برؤية ضمنية إلى العالم، نتلمسها في هذا «الاختيار» الذي أقدم عليه ربيع مضطراً بعد أن انسدّتْ الأبواب أمامه، إذ لم يستطع طوال عطلته التي تفرّغ خلالها لغرامياته مع نشوى، ونزواته مع سيمون، أن يقبض على شيء، لأنه أحس أن مشاهد حياته ومغامراته جميعها آلتْ إلى فراغ: «ينحلُّ جسدي ببطء، ببطء شديد. يتلاشى الزمان ويغيب المكان حولي، فوقي وتحتي،عن يميني وعن شمالي. كل شيء صار فراغاً أبيض، غابة سحب بيضاء تطير وتركض، سماؤها بخار أبيض، هواؤها ضباب كثيف ممتدّ، سديم، سديم لامُتناه» (ص287). بالفعل، هناك أكثر من مشهد يحيل على سديم تتضافر في صنعه عوامل كثيرة تتداخل لتعطي الانطباع بأن ربيع الحاج يعيش في مجتمع فاقد لغده، والفرد داخله لا يمتلك حرية التصرف والاختيار وفق ما يرتضيه... ومن ثم، يبدو الفرد في مثل هذا المجتمع على نوعيْن: فرد مهمش عاجز عن إنقاذ نفسه فلا يجد أمامه سوى تدمير الذات باللذات السرية أو السفر إلى الخارج، وفرد يعتنق النرجسية ليحقق ذاته في أبعادها الدنيا، مؤيداً لما هو قائم ومستفيداً من الفرص المتاحة، خانقاً الرغائب والنزوات. يستأنف ربيع الحاج الحياة المرتبة، القائمة على التنازلات، بعد أن فشل في التمرد على المواضعات والجري وراء الحالات القصوى. عاد إلى زوجته وإلى عمله الرتيب بعد أن أدرك أن قوانين اللعبة الاجتماعية لا تسمح له بأن يعيش قريباً من نفسه، بأن يغير مجرى حياته المسطر من لدن قوى تندُّ عن الفهم ... أما اللذة في وصفها رمزاً لمُمارسة الحرية، فستظل سرية يعيشها كل واحد خطفاً ويخبّئها بين الجلد والقميص، ثم يستأنف العيش محتميا بالأقنعة. في «لذات سرية»، رسم حمدي الجزار ملامح للقاهرة العملاقة، المتشظية في سياق العولمة المفترسة والقيم المهتزة، ومنوالية المقاييس الشمولية، وهو ما يدفع القارئ إلى التأمل في مصير الفرد داخل مجتمعاتنا العربية الفاقدة لقيمة احترام الفرد وحقوقه؛ ومن ثم طرح التساؤل: ما السبيل إلى جعل كل واحد يمتلك فرديته الواعية التي يكون معها جديراً بأن يكون إنساناً؟ بعبارة ثانية، كيف نجعل من لذاتنا السرية مسرّات جهيرة لا تنفصل عن ممارسة حرية تحقيق الوجود المعلن والصريح؟