قرّرت السعودية أخيراً فصل إدارة الطيران المدني عن وزارة الدفاع وإصدار تراخيص في قطاع النقل النظامي المحلي والدولي. ولا تتمثل أهمية القرار الأول في تعزيز استقلال القطاع عن أحد الوزارات مهما كانت أهميتها، بل لما يجسده من حقيقة طالما طالبت بها «المنظمة الدولية للطيران المدني» (إيكاو) الدول الأعضاء، وهي ضرورة الفصل ما بين الجهة التشريعية والجهة التشغيلية لتعزيز سلامة الطيران وأمنه واقتصاديته. أما القرار الثاني فهو خطوة مهمة على طريق إزالة العوائق من أمام تطور القطاع الذي يعتبَر عالمياً ذراعاً إنمائية اقتصادية بامتياز لما يمثله من شرايين تربط الشبكات الاقتصادية المتعددة بالمدن والدول المحلية والعالمية ولما يمثله كعنصر أساسي في سياسة النقل المتعدد الوسائط. إلا أن إصدار التراخيص للنقل الجوي في المملكة يحتاج إلى تفسير واضح يعكس دور الأنظمة والمعايير والضوابط الدولية والمحلية التي يجب أن تتّبع في شكل دقيق كي تترجم هذه الخطوة في شكل سليم وفاعل يساهم في إنجاحها وتحقيق الأهداف الأساسية التي بنيت عليه. وفي سبيل التعاطي بإيجابية مع القرارين الأخيرين، لا بد من توضيح بعض النقاط: أ - تمنح التراخيص من قبل إدارة الطيران المدني بعد توافر الشروط القانونية لتسجيل شركة الطيران في المملكة وتوافر الشروط الفنية الضرورية لتعزيز السلامة المتمثلة بالطائرات المختارة وأنواعها وتاريخ صناعتها وفي إمكانية توافر الصيانة والوسائل اللوجيستية لخدمة الركاب والبضائع ووجود الهيكل الإداري السليم والمنظومة الإدارية الفاعلة والكفاءات البشرية الإدارية والفنية اللازمة إضافة إلى دراسة جدوى ورؤية بنّاءة وخطة فاعلة تتعلق بالخطوط المنوي تشغيلها بين المطارات المحلية والدولية. ب - عند منح الترخيص إلى شركة ما، فإنها تصبح ناقلاً وطنياً في بلد التسجيل وقد تعمل في المطارات الداخلية أو بين مطارات الدولة وخارجها. إلا أن حركة النقل الخارجية تخضع لاتفاقات ثنائية أو إقليمية يجري التفاوض عليها بين الدول وتعتمَد في شكل قانوني من خلال أجهزة الدولة الرسمية المعنية. وهنا لا بد من ذكر أن المملكة قد تحتاج إلى تعديل بعض الاتفاقات الثنائية الموقعة مع الكثير من الدول للسماح للشركات الجديدة الدخول إلى هذه الأسواق. وتشير هذه الاتفاقات الثنائية أو الإقليمية إلى أمر مهم إضافي هو نوعية الحرية المعطاة للشركات المذكورة للعمل بين البلدين وتتلخص هذه الحريات المعتمدة من المنظمة الدولية بالسماح لطائرة الدولة الأم (حيث بلد التسجيل) (1) بالعبور في سماء الدولة الأخرى، و (2) الهبوط في مطارات الدولة الأخرى لأسباب فنية، و (3) نقل الركاب والبضائع من الدولة الأم إلى الدولة الأخرى، و (4) نقل الركاب والبضائع من الدولة الأخرى إلى الدولة الأم، و(5) نقل الركاب من الدولة الأم إلى الدولة الأخرى ومنها إلى دولة ثالثة، و (6) نقل الركاب من الدولة الأخرى إلى دولة ثالثة مروراً بالدولة الأم، و (7) نقل الركاب أو البضائع بين دولتين أخريين من دون الإقلاع أو الهبوط من الدولة الأم، و (8) التشغيل بين مطارات الدولة الأخرى في الاتفاق من دون الإقلاع أو الهبوط في مطارات الدولة الأم. وتسمح الاتفاقات الثنائية عموماً بين دول العالم بالعمل بالحريات الأربع الأولى. وعندما يشار إلى فتح الأجواء أو حرية النقل الجوي، يكون ذلك إشارة إلى الحرية الخامسة التي تعتبر حرية تنافسية بامتياز بين الشركات في الوطن الأم والشركات في الدول الأخرى. أما الحرية السادسة التي تمارسها بعض الشركات فهي غير قانونية بالمبدأ كونها تخالف الاتفاقات المعتمدة حالياً، بيد أن السابعة ليست من الحريات الممنوحة في غالبية الاتفاقات الثنائية الدولية. أما الحرية الثامنة فتعتبَر من أخطر الحريات على الإطلاق كما أنها غير معتمدة من كل دول العالم كونها لا تساهم في إنجاح دور الناقلات الوطنية أو النهوض في قطاع النقل الجوي الوطني بل تضع عوائق أمام تطوره ونجاح دوره بسبب التنافس غير المشروع. من خلال التجارب الدولية وخصوصاً الناجحة منها لا بد من الأخذ في الاعتبار الأمور الآتية: 1 - عدم وضع العوائق أمام حركة الشركات سواء من الناحية التشغيلية أو الاقتصادية، إلا في ما يتعلق بالمواءمة المالية اللازمة لحسن إدارة الشركة، وبالتالي إفساح المجال أمام سوق العمل للدفع نحو التوازن المطلوب. 2 - ضرورة وجود الآليات اللازمة لتأمين عناصر السلامة والأمن ومصلحة الركاب والبضائع من دون المساومة عليها بتاتاً. 3 - التعامل مع الشركات لجهة إعطاء التراخيص والإشراف والتدقيق عليها في شكل متوازن وعادل ومن خلال آليات واضحة بناءة. 4 - وضع آليات شفّافة لمحاسبة الشركات التي تقدم على مغامرات اقتصادية تؤثر سلباً في مصالح الركاب أو البضائع. 5 - تشجيع طلبات الترخيص لناقلات وطنية سواء كانت مملوكة بالكامل من كوادر وطنية أو بالشراكة مع شركات أو أفراد خارجيين في شكل يساهم في تدريب كوادر وطنية ضرورية لمستقبل صناعة الطيران. 6 - منح الحريات للنقل الجوي وفق الاتفاق العربي الموقع في دمشق عام 2004 والذي أصبح نافذاً بعد توقيع ثماني دول عربية عليه وينص على إطلاق الحريات الأربع الأساسية إضافة إلى الخامسة. 7 - تشجيع الشركات الوطنية ومساعدتها على النجاح والتطور وذلك وفق الخطط المقدمة منها وبناءً على تصنيف واضح لأنواع التشغيل، ما يساعد على إيجاد منظومة كبيرة لشبكة خطوط واسعة النطاق تخدم مختلف التصنيفات المذكورة ما يعد بزيادة حجم السوق والعرض والطلب وتحقيق الإنماء المتوازن بين المناطق في الدولة وتعزيز تشغيل اليد العاملة الوطنية. 8 - وضع آلية لزيادة درجة التشجيع للشركات التي تحقق النتائج الإيجابية والأهداف المرسومة والمقدمة لإدارة الطيران المدني سنوياً على أن لا تقوم هذه الشركات بأية مخالفات لأنظمة السلامة والأمن وعلى أن تتبع هذه الآليات مع الشركات التي تتحالف مع المطارات المحلية من أجل خفض النفقات وزيادة الواردات وتحقيق أفضل مستوى من الخدمات خصوصاً تلك التي تعمل في المطارات الثانوية. إن نجاح خطة واستراتيجية الطيران المدني يعتمد على نجاح في أركان النقل الجوي الثلاثة: سلطة الطيران المدني واستقلاليته وحسن إدارته، وعلى نجاح شركات الطيران الوطنية وتنافسها في تقديم مختلف أنواع الخدمات بالأسعار المناسبة، وعلى حسن إدارة المطارات، وعلى مبدأ المنافسة والحرية الاقتصادية مع إدخال مبدأ الشراكة مع القطاع الخاص وفق أصول تؤمن للدولة أهدافها وللمواطن متطلباته وللقطاع الخاص ربحيته المناسبة ما يجعل الشراكة بين هذه العناصر الثلاثة شراكة حقيقية فاعلة في إدارة صناعة الطيران في المملكة وتطويرها. * خبير في مجال الطيران المدني