خلال الأعوام الأخيرة من اربعينات القرن العشرين كان الكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي يعمل صحافياً في قسم تحرير الأخبار الليلية في صحيفة «كورييري ديلاسيرا» التي كانت، ولا تزال، واحدة من كبريات الصحف الإيطالية والأوروبية. طوال سنوات وسنوات كان عمل بوتزاتي يقتصر على تلقّي الأخبار السياسية التي ترد ليلاً وضبطها وتحريرها كي يأتي صحافيو الصباح ويستخدموها في مقالاتهم. كان عملاً مملاً رتيباً غير موفق، لكن بوتزاتي لم يكن يملك أي عمل آخر بديل. لذلك امضى فترة طويلة من حياته، وهو في انتظار خبر مفاجئ يأتيه ليلاً وينعشه. وكان أمله في ذلك ضئيلاً بالطبع، طالما ان الأخبار المهمة لا تأتي إلا خلال النهار والأحداث المهمة لا تحدث خلال الليل، وعن هذا كله سيقول بوتزاتي لاحقاً: «لقد ظل يخامرني على الدوام الانطباع بأن السنوات تمضي من دون ان يحدث شيء... ومن دون ان أفعل شيئاً». غير ان هذا كله لم يكن، في نهاية الأمر، من دون فائدة... إذ، من رحم تلك الحال، ومن رحم الملل والخوف والإحباط والفراغ الذي عايشه بوتزاتي خلال تلك المرحلة ولدت رواية «صحراء التتار» التي نشرت للمرة الأولى في عام 1940، وينظر إليها عدد كبير من النقاد، ولا سيما الأوروبيون منهم، بأنها هي، - لا «البحث عن الزمن الضائع» ولا «أوليس» ولا «سفر الى آخر الليل» -، اعظم روايات القرن العشرين. ذلك انه اذا كان للروايات الأخرى ان تزعم الحديث عن الزمن، وكل الأزمان، وعن الإنسان في كل مكان، فإن «صحراء التتار» ما كان يمكنها ان تكون إلا ابنة القرن العشرين، وما كان يمكنها ان تكتب لولا مرور فرانز كافكا شهاباً في سماء الحداثة الأدبية. ومن هنا ما نعرفه ان «صحراء التتار» ترجمت منذ صدورها الى عشرات اللغات وقرئت بسرعة في طول العالم وعرضه. قبل ان تحوّل في الثمانينات فيلماً اشتهر في حينه وإن كان عجز عن ان يفي الرواية حقها. إذ كيف يمكن فن السينما البصري ان يترجم ما لا يحدث، وتحديداً الانتظار والخوف الكامنين داخل شخصيات هذه الرواية ولا سيما داخل شخصيتها الرئيسة: الملازم جيوفاني دروغو؟ اجل... «صحراء التتار» رواية فكرية جوانية، تدور «أحداثها» كلها داخل النفس لا خارجها... ولكن ليس على طريقة جيمس جويس او مارسيل بروست. بل على طريقة الإنسان، كل انسان، في قرن حكم فيه على هذا الإنسان ان يعيش خوفاً دائماً من مجهول ينتظره ولا يأتي أبداً. طبعاً هنا، أمام هذا البعد قد يخيّل الى القارئ انه الآن داخل عوالم صمويل بيكيت و «في انتظار غودو» التي اسّست بعد اكثر من عقد من ظهور «صحراء التتار» مسرح العبث - او مسرح اللامعقول -... مسرح الرعب الجوّاني لإنسان القرن العشرين. والحقيقة ان هذا الانطباع صحيح وغير صحيح في الوقت نفسه. صحيح لأن هنا انتظاراً يقف حقاً بين الرعب الكافكاوي والخواء البيكيتي (نسبة الى كافكا وبيكيت على التوالي)، لكنه غير صحيح لأن الحال لدى هذين المؤلفين حال فردية خاصة - حتى وإن كانت رمزية - اما لدى بوتزاتي فالحال جماعية. المكان الذي تدور فيه «احداث» رواية بوتزاني هذه، هو حصن عسكري يدعى «حصن باستياتي»، وإلى هذا الحصن يصل، اول الرواية، الملازم الشاب دروغو الذي كان تخرّج حديثاً من الأكاديمية العسكرية، وها هو الآن قد عيّن في الحصن الذي يتجه إليه وقد تملكته جملة من المشاعر. فهو في انتقاله هذا، من حياته العادية الى مصيره العسكري، أدرك انه لم يخلّف وراءه أمه وحبيبته وطفولته فقط، بل كذلك تلك السعادة التي كان يعيش في أحضانها من دون ان يدرك للحظة انها سعادة حقيقية. أما الآن وقد انتقل الى الحصن، فها هو الشعور يتملكه بأنه فقد السعادة - أي كل شيء - الى الأبد. غير ان هذا ليس الموضوع الرئيس للرواية. فالموضوع في مكان آخر: يبدأ هذه المرة مع وصول دروغو الى الحصن. فهو منذ وصوله يعيش قناعة تامة بأن العدو آت لا محالة... وهو آت من الصحراء ولكن من هو هذا العدو؟ ومتى يأتي؟ ومن اية ناحية من نواحي الصحراء يأتي؟ اسئلة لا جواب عليها. ذلك ان العدو لا يأتي ابداً، مع ان جيوفاني دروغو كرّس حياته كلها لانتظار ذاك الذي لن يأتي ابداً. والسبب بسيط وهو ان هذه الصحراء التتارية تقع عند حدود ضائعة غامضة، من المؤكد ان أي عدو لن يفكر ابداً في احتلالها او اجتيازها. الحصن يحمي منذ قرون ما يسمى في الرواية «بلاد الشمال»... وفي مكان قد لا يحتاج أي عدو الى عبوره. ومن هنا، صار هذا الحيّز من الأرض حيّزاً مغلقاً تماماً على ذاته، صار من المستحيل على احد ان يفكر بغزوه. لكن جيوفاني دروغو له رأي آخر تماماً. انه واثق بأن ثمة عدواً سيصل الى هنا يوماً. ويصبح الأمر هوساً بالنسبة إليه. يعيش في الانتظار. ويبدو دائماً مستعداً للمجابهة... ومع ان هذا الرهان يبدو منذ البداية من دون معنى، فإن صاحبنا لا يأبه لذلك: وها هي السنون تمضي، والعدو لا يأتي، والحياة تصبح اهتراء واضحاً. مشكلته انه اهتراء يتجدد كل يوم. وكان من الطبيعي لهذا كله وتحت وطأة ايمان الملازم بحتمية وصول العدو، وضرورة الاستعداد الدائم للتصدي له، كان من الطبيعي له ان يفرض نفسه على كل الجنود داخل الحصن، وهم دائماً ينقسمون قسمين: اولئك الذين يتأقلمون مع الوضع تماماً في امتثال مذهل، ما يخلق نوعاً من الإخاء والتضامن بينهم. وذلك قبل ان ندرك ان ما يؤمّن هذا الأمر إنما هو وجود تلك الصحراء، ذلك الخواء اللامتناهي، الذي يبدو من ناحية مثل فخ أُحكم عليهم، ومن ناحية ثانية، مثل إبهار يعتصر اعينهم وحياتهم. وأولئك الذين يتمردون على ذلك الإيمان ويشعرون بقلق دائم. وكل هذا الوضع يتفجر مثلاً، ذات يوم، حين يظهر بالفعل، من عمق الصحراء، حصان يخبّ، فيخيل الى الجنود ان ظهوره ما هو سوى علامة على وصول العدو. وستبدو السعادة هنا طاغية مفرغة للخوف. ولكن سرعان ما تحل الخيبة حين يتبين ان ثمة حقاً مقاتلين مسلحين آتين. لكنهم ليسوا سوى فرقة عسكرية من جيشهم أُرسلت لتقيم خط دفاع حدودياً آخر. وفي النهاية، حينما تمضي السنوات ويصبح الانتظار حالاً عضوية والخوف مما لن يأتي ابداً، جزءاً من الحياة اليومية، كان لا بد لهذا كله من ان ينتهي به الأمر الى تدمير الكثر، وفي مقدمهم الملازم دروغو، من الداخل. ويقع هذا، في النهاية مريضاً، عجوزاً، منهكاً. لكنه يرفض مبارحة الحصن والخروج منه الى المدينة حيث يمكن ان يداوى. فهو، حتى اللحظات الأخيرة لا يزال يخشى لحظة المجد المنتظرة التي ستجعل منه بطلاً: أي لحظة وصول العدو ومقاتلته والانتصار عليه، او حتى الانكفاء أمامه. وأخيراً: حين يصل جنود مملكة الشمال متدفقين على الحصن غازين له... يكون دروغو منهكاً الى درجة ان احداً لا يقاتله، بل ينقل الى غرفة في نزل في المدينة حيث يشعر ان دوامة الزمن قد توقفت نهائياً. والحال ان هذه العلاقة مع الزمن كانت دائماً الشغل الشاغل لدينو بوتزاتي (1906 - 1972) في أدبه الذي بدأ يكتبه خلال فراغه من عمله الصحافي. غالباً على شكل قصص قصيرة جمعت في مجموعات حملت عناوين صارت شهيرة مثل «الخاء» و «الليالي الصعبة» و «حلم السلم». وهذا الأدب هو الذي جعل من بوتزاتي واحداً من كبار الأدباء الإيطاليين في القرن العشرين. [email protected]