اقترن اسم الروائي والقاص الإيطالي دينو بوتزاتي (1906 - 1972) باسم روايته «صحراء التتار»، التي حظيت برواج واسع، وحوّلت إلى فيلم سينمائي، وترجمت إلى لغات عدة. لكن عوالمه الروائية والقصصية تتخطى حدود هذه الرواية، على أهميتها وشهرتها، لاسيما وأن بوتزاتي لم يكتفِ بكتابة الرواية فحسب، بل عمل في الصحافة وكان يعتبرها رافداً للأدب، كما كتب النص المسرحي، والنقد الفني، ومارس الرسم، ودرس الموسيقى، فضلاً عن كتابة القصة القصيرة. في المختارات القصصية «المرايا»، التي صدرت عن «الهيئة العامة السورية للكتاب» (دمشق - 2012)، نعثر على جانب من الأسئلة التي كانت تشغل بال صاحب «برنابو الجبال»، كما نتعرف على تقنيته في الكتابة، وعلى أسلوبه الفريد في سرد حكاياه.خمس عشرة قصة قصيرة مدرجة في هذه المختارات، التي ترجمها سمير القصير، وهي منتقاة من مجموعات قصصية صدرت له مثل «الرُّسُل السبعة»، «رعب في مسرح سكالا»، «سقوط الباليفرنا»، «تجربة سحر»، «ستون قصة قصيرة»، «الليالي الصعبة»... وغيرها. واللافت هو تفاوت حجم القصص، فقصة «سبعة طوابق» مثلاً، تحتل 28 صفحة، في حين تشغل قصة «خوف الملك» أقل من صفحتين. ولئن بحث القارئ عن رابط بينها فلن يفلح. هي قصص متنوعة مستلة من حرارة الواقع وصخبه اليومي. قصص تروي الألم الإنساني، وتبوح بمكنونات النفس وألغازها. والملاحظ أن لغة بوتزاتي متأرجحة، في هذه المختارات، بين المنحى الرومنطيقي الشاعري عبر مخاطبة المشاعر والوجدان، وبين المنحى الفلسفي عبر إثارة الأسئلة الوجودية المقلقة. أوجاع الحياة ومباهجها تتحول، عبر قلم بوتزاتي، إلى لوحات فنية تتناول الصداقة ومشاعر الفقد والحنين والخوف والعزلة والنزعة الأنانية وروح التشاؤم التي تسم بعض كتاباته، وهو ما دفع النقاد إلى مقارنته بكافكا. لكن بوتزاتي كان يستاء قليلاً من هذا التشبيه، فيعلق رداً على النقاد: سيقولون إنني أقلّد كافكا. ولكنني أقول إنها الحياة...»! ثراء قصصه يأتي، إذاً، من ثراء الحياة، وهذا الثراء لا يربك اسلوب الكاتب، فرغم تعدد مضامين القصص وتشعبها، غير ان بوتزاتي يحافظ على أسلوبه الخاص في السرد. اسلوب يجمع بين الخفة والبساطة من جهة، وبين التهكم والسخرية والطرافة من جهة أخرى. لا يأبه الكاتب كثيراً للبلاغة اللغوية، ولا يغرق حكايته في المقولات والمصطلحات والمفردات المعقدة. هو يبني الحكاية ضمن قالب فني رشيق، مع قليل من الوصف وعبر حوارات مختصرة تعبر عن الفكرة المراد طرحها من دون إسهاب. في قصة «المرايا»، وهو العنوان الذي أُطلق على المختارات، نقرأ عن امرأتين متقدمتين في العمر هما سيمونا وفوسيه. لكنهما لا تقران بذلك. تعتبران أن شباب هذه الأيام غير مهتمين بالنساء، بل إن صناعة المرايا قد تراجعت. تقول إحداهن: لم يعودوا يصنعونها كما كانوا في الماضي، الآن أصبحت كل المرايا غير منتظمة، لا أعرف كيف، لكنها تشوه لك وجهك... الفم المائل، والوجنات الملأى بالتجاعيد، والعينين الكامدتين. ألم تلاحظي ذلك؟ فترد صديقتها المسنة مثلها: «اخترعوا الذرة، ويرغبون في الصعود إلى القمر، إلا أنهم لم يعودوا قادرين على صنع مرآة واحدة تعمل جيداً». هذه القصة تعبر عن عبثية الحياة، فهاتان المرأتان ترفضان الاعتراف بسطوة الزمن الذي رسم التجاعيد على البشرة، وتضعان اللوم على صنّاع المرايا. السخرية المرة تتكرر في اكثر من قصة، كما هي الحال مع قصة «هكذا نمضي»، والتي تتناول حكاية الوزير المتنفذ الذي فقد منصبه. لكنه لا يستطيع تصديق ذلك، فبعد سنوات من السلطة والنفوذ والشهرة ها هو يصبح، عبر سرد قصصي متقن، عامل تنظيف في المكتب نفسه الذي خدم فيه لسنوات كوزير. ويتكرر شيء مماثل في قصة تتحدث عن هواجس الإمبراطور «الذي يرتجف من الخوف في الليل، وهو في سريره الواسع وحيداً. ترى من سيأتي ليذبحه؟ من أين سيدخل الموت بخطاه الصامتة؟»، وكيف سينبه حارسه الأمين جيوفاني إذا ما تعرض للخطر: من خلال الجرس، أم بوق الصيد، أم حبل أم كلب مدرب... كان يخترع في كل ليلة مئات الوسائل التي يمكن من خلالها تنبيه خادمه إلى الخطر الذي يحدق به. غير أن هذا الخطر المنتظر لم يأت يوماً. وبعد فترة طويلة، وبصوت واهن، استطاع الإمبراطور أن ينادي خادمه الذي لبى النداء حالاً. لكن ذلك لم يشكل عزاء لإمبراطور أمضى حياته الطويلة سدى في كيفية جعل حارسه يهرع إليه من الحجرة المجاورة. وفي موازاة هذه السخرية السوداء، نصغي إلى مونولوغ مرهف في قصة «السائقان». بطل القصة يراقب السائقين اللذين يقودان عربة دفن الموتى التي تحمل جثة أمه في طريقها نحو القبر. السائقان يتحدثان بلامبالاة، فهذه مهنتهما. لكن ما يحز في نفس الفتى هو معرفة موضوع الحديث بين سائقين في تلك اللحظات الحزينة بالنسبة إليه، وما هي الكلمات الأخيرة التي قيلت على مسامع امه المتوفاة؟ يتذكر الفتى هذه الحادثة بعد سنوات طويلة، ليؤنب نفسه على اللحظات القليلة التي كان يقضيها مع امه المريضة، بدلاً من المكوث إلى جانبها. والمفارقة أن اسم بطل القصة هنا، هو دينو، أي اسم الروائي ذاته. وبمعزل عما إذا كان بوتزاتي يتحدث عن تجربة حقيقية أم متخيلة، غير أن هذه القصة مترعة بمشاعر الفقد والحنين إلى الأم التي لم تكن تطلب من ابنها شيئاً سوى الاطمئنان عليه، بينما كان الفتى يقضى أيامه لاهياً من دون أن يعي أن هذه اللامبالاة سوف تجلب له الحيرة والقلق مستقبلاً. ها هو، وبعد مرور السنوات، يشعر بالألم والذنب على أيام لن تعود أبداً، ولا يستطيع «أن يمنح نفسه السلام» في خضم تلك الذكريات التي لا تفارق مخيلته. وتأتي قصة «الطابق السابع» وفق المنوال ذاته، فهي كذلك تتحدث عن الموت. لكن من زاوية مختلفة، إذ تروي حكاية رجل يتوهم أن مرضه بسيط. لكنه يذهب إلى مستشفى حيث المرضى يتوزعون على الطوابق بحسب خطورة أمراضهم، فالطابق السابع مخصص للأمراض الخفيفة، وكلما هبط المريض طابقاً فتلك إشارة إلى أن مرضه يتفاقم وصولاً إلى الطابق الأول الذي يضم المرضى الميؤوس منهم. كان جوزيبي كورتي مقتنعاً أن مرضه بسيط، ولن ينتقل إلى الطوابق السفلى. لكن مرضه هبط به من طابق إلى آخر حتى وصل إلي الطابق الأول استعداداً لموت محتم. القصة هذه ترمز إلى دورة الحياة ذاتها، من الطفولة إلى الشباب، وصولاً إلى الكهولة والشيخوخة، حيث الموت المنتظر. في هذه المختارات نجد أن بوتزاتي يستمد قصصه من الواقع اليومي المعيش. لكن هذا الواقع لا يظهر وكأنه نسخة طبق الأصل، بل أن القاص الإيطالي يجتهد في تحويل هذا الواقع إلى سرد ينوس بين الحقيقة والمجاز، بين الواقع والوهم، إذ يضفي على كل حدث شيئاً من روحه ومن ذاته. وهنا تكمن مهارة صاحب رواية «الصورة الكبيرة» الذي لا يعتني كثيراً بتطور الشخصية وتاريخها وملامحها وصفاتها إلا قليلاً، وبما يخدم الوقائع. هو يهتم أكثر بدواخل الشخصية ومخاوفها وأحلامها ودوافعها، محاولاً في نهاية كل قصة تسطير حكمة أو عبرة أو مقولة تقص محنة الفرد بأيسر العبارات وأكثرها سلاسة. وتبدو قصصه للوهلة الأولى وكأنها مكتوبة بقلم كاتب مبتدئ يتمرن على الكتابة، لفرط وضوحها وبساطتها. لكن سرعان ما تتعقد حبكة القصص، وتظهر اللمحات الحاذقة التي تقود القارئ إلى فضاءات غير متوقعة تثبت أننا إزاء صوت أدبي يعرف كيف يبدأ حكايته، ومتى ينتهي، لدرجة يصعب معها إجراء أي تعديل على القصة، مهما كان طفيفاً. إنه يبتعد عن التكلف والمبالغة مثلما يترفع عن الابتذال المجاني، فتأتي قصصه محكمة، متقنة السبك، تروي مخاوف الإنسان ضمن مناخات من الكوميديا السوداء لا يستطيع التعبير عنها سوى قلة من الكتاب.