تلك البلاد ناصعة فعلا. لم يجرؤ «الربيع العربي» على الاقتراب منها. ولا وباء الديموقراطية. ولا لوثة حقوق الانسان. ولا تقليعة المجتمع المدني. ارتكبها المؤسس الوافد من حضن جوزيف ستالين واحكم اقفالها. قلعة تضحك من العواصف. قلعة القوة والعدوانية والريبة. كل سؤال يكشف جاسوسا. كل نظرة محايدة تفضح مؤامرة امبريالية. بلاد تعيش على توقيت القائد. وكان اسمه كيم ايل سونغ. عجنها وكيفها. اعطاها شكل يديه. وراح يحاور التاريخ. يُقتلع المعارض كما العشبة السامة. يكون الولاء مطلقا والا سوء المصير. على الجنرالات ان ينحنوا حتى تتقوس ظهورهم. وعلى افراد الحزب ان يبتكروا عبارات التبجيل. وعلى العمال ان يحتفلوا بانجازات حزب العمال. لا تتسع البلاد الا لرجل واحد. وهكذا كان. انه الاول في الحزب. والاول في الجيش. الجنرال الباهر. والمفكر اللامع. والرفيق الطيب. ارادته لا ترد. وعلى قوانين الفيزياء والكيمياء ان تتكيف مع ابداعاته. الاول في الجغرافيا. والاول في التاريخ. والاول في الرياضة. كل الالقاب تستجديه. وكل الاوسمة تشتهي صدره. ومن ابتسامته الحانية ينهمر المطر الناعم وتتدحرج ضحكات الاطفال. يولد الاطفال في ظله. ويكبرون في ظل تماثيله. ظله يجلس على الاصابع. يعتقل المخيلات. ويقولب العقول. ويمشط احلام النائمين. وما هم ان تضوروا جوعا. ومات منهم كثيرون. كرامة الوطن اهم من مصيرهم. صورة القائد اهم من الوطن. لم يجرؤ احد على تحديه. وحده الموت ازاحه في 1994. وكان استعد لتلك اللحظة. لن يترك كوريا الشمالية في مهب الريح. لن يسمح بتبديد التضحيات والانجازات. سقط جدار برلين ولم يسقط حرف من القاموس. اندحر الاتحاد السوفياتي وانتحر ولم ترف جفون القائد. سيكون ارثه في ايد امينة. لم يبخل على بلاده. اعطاها فلذة كبده. وهكذا ولدت زعامة كيم جونغ ايل. وهكذا وضع حجر الاساس لأول سلالة شيوعية. صورة القائد الجديد لن تتأخر. ستتلاعب الرواية الرسمية بمكان ولادته. ستنسب له قدرات لا يمتلكها. وستلصق به انجازات لم يسمع عنها. لكنه سيحقق المفاجأة. خير خلف لخير سلف. بارع في المناورة. استاذ في الابتزاز. سينجز ما عجز عنه «الزعيم المحبوب». سيتحدث عن توحيد الكوريتين ليحكم قبضته على الشطر الشمالي. سيفاجئ العالم بامتلاكه وسادة نووية. وسيتحول بائعا سريا للصواريخ. وسيرضخ العالم للعبته. مساعدات غذائية لشعبه الذي يتضور. ومفاوضات سداسية لا تنتهي. اقام الزعيم الغالي على صدر شعبه. يتوارى ويعزز الغموض. يمسك بكل الخيوط ويتلاعب بالمصائر. يحب السفر بالقطار ويعشق الحياة. يكره اميركا لكنه يحب افلام هوليوود. لا يقيم وزنا لفرنسا لكنه شغوف بما تبوح به كرومها من اسرار. ويحب استنزاف الليل على وقع الموسيقى وفرق الراقصات مستنفرة دائما لابهاج القائد. السبت الماضي غدره العمر. لم يكن ساذجا. التقط الاشارات باكرا. استعد لتلك اللحظة. لن يترك بلاد الجائعين والقنبلة السحرية والصواريخ في مهب الريح. اعطاها فلذة كبده. وهكذا انتقلت المقاليد الى يد نجله كيم جونغ اون. شاب غامض لم يبلغ الثلاثين. كان في الظل الكامل باستثناء مروره في مدرسة في سويسرا. استدعاه ورش الاوسمة على كتفيه. قبل موراة الزعيم ولد الزعيم. ومن عادة الربان هناك ان يلتهم الجيش والحزب والشعب.