«أذكر أنني أحببت»، «الدردارة»، «راعي الضباب»... ثلاثة كتب شعرية تفصل بينها مسافات زمنية متباعدة. في العدد هي قليلة. وفي قيمتها هي أكبر من أن تنصفها الأجيال الراهنة. هذه الثلاثية مثلّت تجربة شعرية فريدة ومتميزة كان بطلها شاعراً ساحراً في خفوته وإبداعه وقوّة موهبته. حسن عبدالله، هذا الشاعر اللبناني الكبير، هو أيضاً من أهمّ كتّاب أدب الطفل في عالمنا العربي. ومع أنّ تكريمه أتى متأخرّاً، إلاّ أنّه جاء منصفاً. فلم يختلف اثنان على أحقيته بالفوز. وبمناسبة منحه جائزة الإبداع الأدبي، التي خصصتها مؤسسة الفكر العربي هذه السنة لأدب الطفل، التقت «الحياة» الشاعر الذي كتب فيها قصّة الطفل وقصيدة الطفل، في زاوية أسبوعية لمدّة عام كامل. فتوهّج حسن عبدالله في كلامه تماماً كما كان دائم التوهّج في صمته: في كل مرَّة يُعلَنُ فيها عن جائزة، ينقسم الناس بين مؤيد للجائزة ومشكك فيها. وقد لاحظت أن هناك إجماعاً بين مَنْ أعرفهم على أنك تستحقّ جائزة «مؤسسة الفكر العربي» للإبداع الأدبي التي نلتها هذا العام عن أدب الطفل؟ - آراء هؤلاء أعتبرها جائزة ثانية لي. وإنني أشكر القيمين على «مؤسسة الفكر العربي» واللجنة المقرّرة للجائزة لمنحي جائزتهم للإبداع الأدبي، والتي خصَّصوها هذا العام لأدب الطفل، وهي جائزة مهمة بالنسبة إليّ لأنها تصدر عن مؤسسة مهمّة جعلت النهوض بقطاع التربية والتعليم في أولوية أهدافها. والجائزة هي تفصيل بسيط ضمن الحملة الثقافية والحضارية الشاملة التي تقوم بها المؤسسة. وبخصوص انقسام الناس حول الجوائز فهذا طبيعي إذ لا توجد في أي مكان في العالم جائزة «مثالية» ويمكن اعتبار كل الجوائز «تقريبية»، بما فيها جائزة نوبل، لأن الذين يمنحونها بشر، ولا يمكن أن تكون أحكامهم مطلقة الصحة. لكن يحدث أحياناً أن يحصل على بعض الجوائز مَنْ لا يستحقونها، ويُحرم منها مَنْ يستحقونها. لا أحد يشكك في النوايا الطيّبة والنبيلة لمانحي الجوائز، ولعلّ الخطأ يقع على الطريق الممتدّة بين مانح الجائزة ومستحقّها، فعلى أحد منعطفات هذه الطريق يختفي أحياناً الجيّد وتتابع الأعمال ذات المستوى المتواضع تقدمها حتى نهاية الشوط. لماذا بنظرك يحدث مثل هذا الشيء؟ - هذا يعود إلى سلامة اختيار الأشخاص الذين يفحصون الأعمال المقدّمة للجوائز. فإذا كان هؤلاء أو بعضهم غير كفوئين فإن الجوائز في هذه الحال تضرّ أكثر مما تفيد، ولا يسيء هذا الشيء إلى الذي حُرِم من الجائزة وهو يستحقّها، بل يسيء أيضاً إلى مانح الجائزة حيث يذهب ما يقدِّمه في الاتجاه المعاكس لما توخَّاه من الجائزة. وكيف يتمّ ضبط هذا الأمر؟ - يُمكن إخضاع الأعمال الفائزة بالجوائز لنقد دقيق وموضوعي. فإذا كنا نتحدّث عن جوائز أدب الطفل مثلاً، فيُمكن تناول الأعمال العربية الفائزة بجوائز أدب الطفل خلال سنة أو خمس سنوات، وفحصها فحصاً جدّياً من قبل فريق متخصّص من النقاد، على أن يشتمل هذا الفريق على كتّاب أدب أطفال موثوق بجدارتهم، ثمّ تحدّد هذه اللجنة درجة استحقاق كل عمل للجائزة التي نالها، وسيكون رائعاً ومُطمئناً أن يكون جميع الفائزين جديرين بما فازوا به، وفي حال كان هناك أعمال مستواها أقلّ من شروط ومتطلبات الجائزة فلتتمّ الإشارة إليها، فإذا تكرّر ذلك عاماً بعد عام فسيساعد على تصحيح مسار الجوائز والارتقاء بها نحو الأفضل. المدرسة والبيت هذا عن الجوائز. فماذا عن الكتب التي تستحقّ أو لا تستحقّ النشر؟ - لقد عملت لسنوات في مشروع لفهرسة كتب الأطفال عند العرب فأتاح لي ذلك الإطلاع على كمية كبيرة من الكتب الموجّهة إلى الطفل العربي، فلاحظت أن النزعة التعليمية تلتهم كل ما عداها، فما هو نصوص أدبية قليل جداً، ومعظم الكتّاب، لا يفعلون شيئاً سوى العمل كمعلمين حيث تلاحق المدرسة هنا الولد إلى بيته. الكتابة التعليمية سهلة وبسيطة، ولا تتطلّب جهداً إبداعياً. لكنَّ عقل الطفل وعاطفته ووجدانه وخياله في حاجة إلى الأدب الجميل والممتع والمدهش، الذي يحرِّر من قيود المدرسة والبيت. والمؤسف أن غالبية المهتمّين بأدب الطفل عندنا لا يرون في هذا الأدب غير الإرشاد والتعليم والفائدة الأخلاقية والعلمية. وهذا لا يعني أن الكتب التربوية والتعليمية غير مهمّة، بل إن اعتبار هذه الكتب كل شيء هو الذي ينبغي أن ننتبه إليه. ويمكن أن نقول هنا أن التشوُّهات في مسيرة النمو في مجتمعاتنا لا تبدو واضحة في شيء مثلما هي عليه في المنتجات الأدبية الموجهة إلى الأطفال، فكمية الكتب الفاسدة التي تؤسِّس للغباء والبَلَه والانحراف تكاد تفوق كمية الكتب التي يمكن وصفها بالمقبولة، أما الكتب الجيدة فهي نادرة جداً. وهذا عائد إلى السوق الرخيصة والمغفلة التي تشتري وتبيع كتب الأطفال. لقد آن الأوان لفرض رقابة صارمة على كل كتاب جديد يصدر إلى الطفل في كل قطر من الأقطار العربية، فلا يعقل أن تستمرّ هذه الفوضى. كيف يرضى الناشر بإصدار كتاب سيء؟ - إن عدداً كبيراً من الناشرين يتوخُّون الربح السريع، وبأقلّ كِلْفة ممكنة وهم يعملون خارج أي رقابة، ومن دون أي محاسبة. كما أنهم يستغلّون جهل الجمهور، الحديث العهد بأدب الطفل، لترويج ما ينشرونه. ولكي لا نظلم هؤلاء الناشرين فهم أنفسهم عاجزون عن تمييز العمل الجيد من العمل الرديء. وهم لا يلجأون، كما يحدث في معظم بلدان العالم، إلى مستشارين في هذا المجال، وإذا لجأ بعضهم إلى مستشارين فغالباً ما يكون هؤلاء عديمي الخبرة في موضوع أدب الطفل. وهو موضوع دقيق ومُرهف وحسّاس وصعب. ألا ترى أن هناك مبالغة في التشاؤم في نظرتك إلى هذا الموضوع؟ - التشاؤم ينبع من الواقع، وليس من نظرتي إلى هذا الواقع. فنحن في وجه عام نتحاشى الخوض في المسالك الصعبة، ونميل إلى السهولة والتبسيط في صياغتنا لفلسفة أو نظرية لأدب الطفل عندنا، فما هو أدب الطفل؟ هل لدينا تعريف له؟ وما الغاية منه؟ وما الشروط الفنية التي ينبغي أن تتوافر فيه؟ نحن لا نهتم بذلك لأننا نتنعَّم بالفوضى ولا نستطيع التعايُش مع الدقّة والوضوح. إننا نأخذ النظريات والأفكار من الأجانب، ونتحاشى الصعود إلى مستواهم في الأعمال الإبداعية الموجَّهة إلى الطفل. إختلاف الشكل والمضمون إنني ألاحظ في ما أراه من كتب الأطفال في المكتبات اهتماماً بالأشكال أكثر من الاهتمام بالنصوص؟ - هذا هو الانحطاط بعينه. عندما يكون الشكل باهراً وجذَّاباً والمضمون رديئاً. فنحن هنا نقدِّم للطفل السُّم في الدسم كما يقولون. ولو مسحتِ الآن المكتبة العربية للطفل فستجدين أن ثلاثة أرباع الكتب الزاهية والجميلة لجهة الرسوم والأغلفة ونوعية الورق تحتوي على مادة ضعيفة وركيكة، وهذا لا وظيفة له سوى تعميم الفساد، وطمس الأعمال الجيدة (التي تُنشر في شكل متواضع) تحت تلال من الأعمال البرَّاقة والخاوية. أنت شاعر مُقل، فهل تعتقد أن كتابتك لأدب الطفل قد شغلتك عن الكتابة للكبار؟ - أظنُّ أن كتابتي قصص الأطفال قد ذهبت بمعظم ما كان يمكن أن أكتبه من قصص للكبار. لكن الشعر، لا. فالموضوع هنا يعود إلى الزهد والخوف الدائم من الكتابة أكثر مما يعود إلى أي انشغال آخر. لقد صدرت لي، وعلى فترات متباعدة، ثلاثة كتب شعرية للكبار هي «أذكر أنني أحببت» و«الدردارة» و«راعي الضباب» والبعض، وأنا منهم، يرونها كثيرة بالقياس إلى ما يتراكم حولنا من شعر. عندما تكتب شعراً للأطفال فهل يختلف ذلك عن كتابتك الشعر للكبار؟ - في كتاباتي الشعرية للأطفال أستفيد من تجربتي في كتابة الشعر للكبار. وقصائدي للأطفال لا تختلف من حيث مستواها الفنّي عن قصائدي للكبار، وأحرص على أن تأتي القصيدة في قالب قصصي مُسلٍّ كما أحرص على أن تكون مشحونة بروح المرح لأن الأطفال لا يطيقون النصوص المتجهّمة. هذا نجده أيضاً في كتاباتك الشعرية للكبار؟ - صحيح... هذا موجود في كتاباتي الشعرية للكبار. لا نجدُ عند الجمهور اهتماماً بشعر الأطفال يعادل الاهتمام بقصص الأطفال؟ - هذا مؤسف فقد يكون الطفل أحوج إلى الشعر منه إلى القصَّة. فالقصيدة تلبّي عطش الطفل وجوعه الفطريين إلى الموسيقى والإيقاع مما لا يتوافر في القصص. وعندما نتحدَّث عن شعر الطفل، لا نقصد هنا الشعر المدرسي الجاف الذي يكرِّر أفكاراً عامة مأخوذة بمعظمها من مستودعات البيت والمدرسة. فالشعر لا يكون مفيداً إلا إذا كان جميلاً ومدهشاً وممتعاً، يُنمِّي ذوق الطفل ويُثري لغته ويعمِّق إحساسه بجمال الأدب وجمال الحياة. كيف تنظر إلى النتاج الشعري الذي يُقدَّم اليوم للكبار؟ وهل تتابع الحركة الشعرية الحديثة؟ - أتابع الحركة الشعرية الراهنة كمن يتأمل في محيط هائج، أمواج تنبثق من هنا وهناك ويلطم بعضها بعضاً، ومن الصعب معرفة ما ستتمخض عنه هذه الغزارة في إنتاج الشعر، وهذا التنوُّع المرتجل في أساليب الكتابة الشعرية. البريق من هنا وهناك يبهر الأعين، والضجيج يصمّ الآذان، ولا أظن أن ناقداً عاقلاً يجرؤ على إعطاء حكم على النتاج الشعري الراهن قبل انحسار الإعصار. «أجمل الأمهات التي انتظرت..» القصيدة التي غنَّاها مرسيل خليفة وتردَّدت في العالم العربي هي من تأليفك. هل صحيح أنك اتخذت بعدها قراراً بمنع غناء قصائدك؟ - لا. لم أتّخذ أي قرار من هذا النوع. ولكنني أشعر أنني في وادٍ وهؤلاء الذين يغنون في وادٍ آخر. ما عدا الأغاني الموجّهة إلى الأطفال فكثير من قصائدي للأطفال تحوَّلت إلى أغنيات. وأبرز أعمالي الغنائية للطفل هو كتاب «أنا الألف» الذي وضع ألحانه الموسيقي الراحل الدكتور وليد غلمية، ووضع رسومه الفنان حلمي التُّوني. وهذا الكتاب يتألّف من 29 قصيدة تتناول أحرف اللغة العربية حرفاً حرفاً في قصائد قصصية شيّقة وجميلة. وهو يصدر اليوم عن دار الحدائق في بيروت، كما صدرت لي مجموعتان من القصائد المُغنّاة وضع ألحانهما الموسيقي أحمد قعبور. من هو الشاعر العربي أو الغربي الذي ترسَّخ في ذاكرة حسن عبد الله الشعرية؟ br / - إذا كان لي أن أسمِّي شاعراً عربياً لا أتوقف عن قراءته منذ بدأت الاهتمام بالشعر، وأتفاجأ به باستمرار فهو المتنبّي، ولم أصادق من الشعراء الأجانب شاعراً مثلما صادقت الشاعر الفرنسي «بودلير»، فهذا أيضاً أقرأه باستمرار. المعروف عنك أنك مهتمّ بالعلوم، وتتابع الكتب العلمية، ونادراً ما نرى كتاباً وشعراء يهتمّون بذلك. - إنني أهتمّ بالعلوم من زاوية فلسفة العلم، وذلك من ضمن اهتمامي بالفلسفة بوجه عام. جديدك؟ هل تحضِّر عملاً ما؟ - إنني عاكف منذ أيام على وضع اللمسات الأخيرة على ديوان شعر نثري تتخلَّله بعض المقطوعات الموزونة. وسيصدر هذا الديوان خلال شهرين أو أكثر قليلاً أو أقلّ قليلاً. وهناك عدد من قصص الأطفال أنهيت كتابتها في الصيف الماضي وأحضّرها هي الأخرى للنشر.