شن الشاعر والناقد الأكاديمي المصري الدكتور علاء عبدالهادي هجومًا عنيفًا على بعض الجوائز العربية، مشيرًا إلى أن من يحترمون منجزهم الشعري لا يتقدمون للظفر بها برغم قيمتها المادية العالية، مرجعًا ذلك إلى أن هذه الجوائز تمنح لنجوم لا لأعمال، وأنها لا تمنح شرعية لمن كرمتهم، بل تأخذ شرعيتها منهم؛ فضلًا عن أن لجان تحكيمها يشوب تشكيلها الفساد، بضمها لموظفي وزارات وساسة واقتصاديين لا علاقة لهم بالثقافة، مستثنيًا من ذلك الجائزة التشجيعية في مصر، وجائزة الشابي التي فاز بجائزتها في دورتها 23 لعام 2009 عن ديوانه“مهمل تستدلون عليه بظل”.. فعن فوزه بهذه الجائزة، وقراءته للمشهد الشعري والأدبي العربي جرى هذا الحوار.. مشبوقًا بالإشارة إلى أن الشاعر عبدالهادي أصدر عشرة أعمال شعرية. كما حصد مجموعة من الجوائز المحلية والعالمية المهمة أبرزها الجائزة الدولية للأديب المجري الكبير "فوشت ميلان" من أكاديمية العلوم المجرية في عام 1999. وقُلدَ قلادة العنقاء الذهبية من العراق في 2008. تكريم الشعر * كيف تم ترشيحك لجائزة أبي القاسم الشابي؟ وماذا يمثّل لك الفوز بها؟ تقدمت مثلي مثل 84 شاعرًا من مختلف الأجيال والتيارات، من 13 دولة عربية بأعمالهم كما هو متبع في أي جائزة شعرية عالمية رصينة، وجائزة الشابي تمنحها اللجنة لعمل شعري محدد يمثّل نقلة جمالية في مسيرة القصيدة العربية على مستوى الأصالة من جهة، والتجديد الشعري من جهة أخرى، أما أهمية الجائزة فمن أهمية اسمها، الذي ينتسب إلى شاعر العربية الكبير أبي القاسم الشابي، كما تنبثق أهمية هذه الجائزة من قانون إنشائها، الذي يمنحها للنصوص لا للأسماء، وهذا يعني تكريمها لنص بعينه، لا لشاعر بتاريخه، فهي جائزة تكرم الشاعر في شعره لا العكس؛ لذا تعد هذه الجائزة تثمينًا للنص، وتقديرًا له، من أجل هذا يصعب التكهن في هذه الجائزة بالفائز اعتمادًا على اسمه، أو على أعمال له سبقت العمل المتقدم إلى الجائزة، مهما كانت درجة ذيوعها، أو نجومية صاحبها، فجائزة الشابي من الجوائز ذات السمعة الطيبة بين الجوائز العربية، وقد عرفت في أثناء حفل التتويج أن المحكمين كانوا خمسة، منهم عميد لكلية الآداب، وعميد آخر لكلية الترجمة، وناقدان أكاديميان مخضرمان، وشاعر، هذا فضلًا عن تقرير مجلس الأمناء، وكان تقرير الجائزة دالًا على وعي أعضاء اللجنة بحراك الشعر العربي المعاصر من جهة، وحراك الشعر العالمي في أهم تجلياته الجمالية المعاصرة من جهة أخرى. كما تمثّل هذه الجائزة أهمية مضافة لأنها منحت لديوان قصيدة نثر، وهذا ما يعد التكريم الأول لديوان قصيدة نثر على المستوى العربي، وقصيدة النثر المصرية بخاصة، من قبل جائزة تحمل اسم شاعر كبير مثل أبي القاسم الشابي، لقد منحت لجنة التحكيم الجائزة لعمل كان على درجة كبيرة من التعقيد والتركيب، وأظنني لا أعدو الحق إذا قلت: إنها بذلك أصبحت الجائزة العربية الكبرى الأولى التي كانت على قدر كبير من التشوف الإبداعي، واستشراف المستقبل الشعري القادم، وهذا ما يمثّل تقديرًا جديدًا يؤكد الآن أن قصيدة النثر هي القصيدة الناطقة الآن بعد أن صمت شاعر الرسالة والنبوءة، وخرس شاعر المنبر والبلاط والمناسبة. جوائز مريبة * في مرأة جائزة الشابي.. كيف ترى جوائز الشعر العربية؟ هي جوائز متفاوتة المستوى إلى حد كبير، ومنها جوائز لا يتقدم إليها أحد ممن يحترمون منجزهم الشعري؛ لأنه يعلم من البداية أنه تقدّم إلى جائزة ستمنح لنجوم لا لأعمال، وعلى الرغم من القيم المادية العالية التي تمنحها هذه الجوائز، فإن عددًا كبيرًا من المثقفين ينظرون إليها بريبة، وشك؛ لأنها لا تمنح شرعية لمن كرمتهم، بل تأخذ شرعيتها منهم! وقد كان في مكنة هذه الجوائز ذوات القيم المادية الكبرى اكتساب شرعية التكريس الأدبي لو كرمت الشاعر في شعره، ولم تكرم الشعر في شاعره. من جانب آخر هناك جوائز قيمتها المادية متواضعة، وربما قليلة لكنها تقوم على أسس علمية وتحكيمية صحيحة بصرف النظر عن المتقدمين إليها، وهذا ينطبق مثلًا على أكبر جائزة شعرية عربية في المغرب العربي، وهي جائزة الشابي، كما ينطبق على حال الجائزة التشجيعية في مصر، وهي أفضل جوائز مصر على المستوى الموضوعي، وأصغرها على المستويين المادي والدعائي. تفصيلات مسترذلة * وماذا عن جوائز الدولة في مصر؟ إذا نظرنا إلى جوائز مثل جائزة التفوق أو الجائزة التقديرية، لوجدنا أنها منحت مرارًا لأدباء لا يستحقونها، وكان هناك أدباء ونقاد آخرون من المتقدمين أكثر استحقاقًا ممن أخذوها، لكن المنح أتى من لجنة يشوب تشكيلها الفساد، مكونة من أكاديميين موظفين وصحفيين وغير ذلك، وعدد مؤثر منهم غير مؤهل للحكم على الأعمال الأدبية هذا إذا افترضنا أنه يعرف صاحبها أو أنه قرأ له، فأعمال المرشحين لهذه الجوائز لا تدرس على نحو موضوعي مثلًا، أو تقوم جماليًّا أو علميًّا، كما أن هناك عددًا كبيرًا من المحكمين لا معرفة لهم بحراك الأدب المصري الحديث، ومنهم من توقفت معرفته الأدبية عند أدباء الستينيات ونقادهم، وفيهم موظفو وزارات لا علاقة لهم بالثقافة، لكنهم موجودون بسبب إسهامات وزاراتهم في قيمة الجائزة ماديًّا، ومن أعضاء اللجنة ساسة، واقتصاديون، وهكذا، بل إنني لا أعدو الحق إذا قلت: إن العامل المؤثر في منح هذه الجوائز غالبًا ما يرجع لعلاقة عدد من المتقدمين لهذه الجوائز علاقة مباشرة بوزير الثقافة، أو لعلاقة المتقدم بالأكاديميين الموظفين في الإدارة الثقافية، أو لأهمية المتقدم على المستوى الصحفي والإعلامي بسبب رئاسته لتحرير صحيفة أدبية، أو مجلة نسائية وخلافه، أو لارتباطه بجهات تؤثر على صناعة القرار، وغالبًا ما تبدأ قصة المنح باتصال المتقدمين لهذه الجوائز بأعضاء اللجنة المانحة، والضغط عليهم، وهكذا، وكثير من الأدباء والنقاد يعرفون تفصيلات معيبة مسترذلة في هذا السياق. على مستوى آخر هناك جوائز مضحكة أشهرها جائزة الشعر في دورتها الأخيرة التي منحها شاعر متقاعد إلى نفسه، منحيًّا اسم شاعر العربية الكبير محمود درويش من عنوان تلك الدورة، وهناك جوائز أخرى حاول القائمون عليها من الأكاديميين الموظفين في وزارة الثقافة تسييسها، وذلك بإقناع الوزير بقدرتهم على إدخال كتاب اليسار إلى الحظيرة على حدّ وصفه، وأشهرها محاولة تسييس جائزة الرواية بمنحها لصنع الله إبراهيم، ومعظم المثقفين يعرفون تفصيلات الحدث، وهكذا. أما جيلي الشعري العربي الممتد فتشرف به الجوائز التي تمنح إليه، وهي قليلة إن لم تكن نادرة، أكثر مما يشرف بها. ديوان الثقافة البصرية * ديوانك الفائز بجائزة الشابي “مهمل تستدلون عليه بظل”.. من أي الفضاءات تقدمه لقرائك؟ ربما كان أكثر أعمالي الشعرية اتكاءًا على الثقافة البصرية، وذلك عبر اقتراح شعري جديد، يقوم على التفات النص الشعري إلى النص السينمائي؛ بطرائق “كتابة السيناريو”، تكوّن الديوان من خمسة نصوص، ضمَّ كل منها عرضًا سينمائيًّا، مكتوبًا بلغة “الكاميرا”، بدأ العمل بكلام الراوي الشعبي “منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه”، الذي ارتبط بأحد أسئلة نيتشه في كتابه “هذا الإنسان” الذي وضعته في مقدمة العمل: “هل تفهمونني؟”.. وفي كل عرض من هذه العروض مجموعة من المستويات، مثل المستوى البصري، الذي يرى بعين الكاميرا، والمستوى الصوتي الذي يضم التعليق على حدث، والإشارة إلى بعض الأغنيات التي تقوم بما أسميه الإخبار الاسترجاعي لماضٍ قريب ملآن بالحنين، فضلًا عن وجود مستويات سردية ثلاثة: الأول عن علاقة حب بين تلميذ ومعلمته، والمستوى السردي الثاني يتعلّق برحلة الشيخ الذي قرر الرحيل بحثًا عن حلول، بعد سقوط صومعته، والمستوى السردي الثالث يتعلق بقصة شفيقة/ مصر، جاءت هذه السرود متداخلة في العروض كلها، خالطة بين الحلم وما يبدو أنه واقع في شكل من الفوضى والتوتر الشديد بين أجزاء النص، وهذا ما شمل العروض الخمسة في الديوان، التي سبقها عنوان واحد هو “هذيان”، بدأت هذه العروض من حريق القاهرة، ولم تنتهِ بانتخابات للرئاسة الأمريكية بين بوش وكيري.. كما احتفى هذا العمل بالتناقض، وإطلالة اللايقين، الواقع بين الحقائق الرمادية التي تعبر عنها فضاءات قصائد النثر في الديوان، والحقائق الحادة؛ البيضاء والسوداء الملأى باليقين، وسياسات الهوية، والقيم القارة، والرومانسية في أشد حالاتها وطأة، وهي النصوص التي عبرت عنها قصائد التفعيلة والعمود. وقد تخللت هذه الفضاءات السردية فضاءات شعرية، بحيث إن الديوان قد ضمّ في مجموعه: السرد السينمائي، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، وقصيدة عمودية اختلطت بقصيدة التفعيلة، جاءت من بحر المتقارب، وأخرى من بحر البسيط. لقد حاولت في معظم أعمالي، ومن خلال ثقافتي العروضية، والموسيقية المتواضعة، أن تكون لي موسيقاي النصية، وأنظمتها الخاصة بها. وتحريت قدر استطاعتي أن أضع نفسي في حالة يمكنني فيها التكيف تلقائيًّا، -وبقليل من الجهد- بين حالتي النفسية في أثناء استقبالها للفكرة الشعرية، وإيقاعات اللغة التعبيرية، ودوالها الشكلية في القصيدة. انفتاح على المنجز العالمي * البعض من النقّاد يشير إلى تميّز تجربتك بين جيل شعراء السبعينيات.. إلى أي شيء ترجع تميّزك؟ هذا حكم لا أفسره، يفسره من تبناه من النقاد المصريين والعرب، من الذين كتبوا عن تجربتي الشعرية، لكن ما أستطيع قوله هو: إنني مطلع قدر إمكاني على حراك الشعر العربي والعالمي المعاصر في أوروبا وأمريكا اللاتينية بخاصة، وهما منبعان مهمان للتجديد الشعري، فأنا لست محصورًا بتراثي الشعر العربي وهو تراث عظيم دون شك، ولكنني منفتح على المنجز الشعري العالمي برمته، مازلت مقتنعًا بأن الفن ليس هو القانون الخاص بالواقع بل قانون نفيه؛ لذا كرهت عطر القصائد، مثلما كرهت أية شعرية تصدر من حشو لغوي أو إيقاعي يستهدف أثرًا لامعًا يخلق شعرية كاذبة في القصيدة. ولم تعد معاداة الأهمية الأخلاقية أو العَقَدِيّة هاجسًا لي عند الكتابة، لم تشكل يومًا مادة أملأ بها فراغ القصيدة، كان الأفضل أن يظل الفراغ قائمًا في داخلها، حتى يجد المتلقي مكانًا فيها. ولم تحُز قصيدتي جدلها الخاص من ادعاء كاذب للطفولة، أو البساطة فيها. ولم يكن اتصالي بالتراث سجنًا للممكن الجديد في الكتابة، أو نكوصًا، كنت أريد الآخرين أن يفكروا في عقلي، وكنت أفكر في عقولهم، هكذا تكسرت المرآة حين تركت المراقبة، وفقدت سيطرتي لصالح اللعب. ربما كان التعامل مع الشعر بصفته لعبًا هو ما يدفع بتجربتي إلى أمدية جمالية جديدة، على حد تعبير النقاد. هناك نوعان من الشعراء دائما؛ نوع يضنيه اهتمامُه باصطياد حركة لا تتوقف، وآخر منشغل بالتقاط الجميل في سكونه. تتسم معظم القصائد المكتوبة في شعرنا العربي المعاصر بما تتسم به جماليات زهرة ساقطة، انقطعت عن حياتها. الزهور الساقطة فحسب هي التي قالت كلمتها الأخيرة، أما الزهور الموصولة، المتروكة لأيدي الهواء، لجدلها مع الريح، لمصادفة ميلها الأخّاذ، ولحريتها في الانحناء، فتتكتم كلمتها الأخيرة دائمًا. هذه الكلمة الأخيرة، التي تُطلّ على القاريء مباشرة بُعَيد أن يقتطفها كاتبُها، ويقطع عنها الحياة، فعلى الرغم من جمالها، فإن النوع/ الإناء الذي يحفظها أيًّا كانت قيمته الجمالية أو المادية، يخبرك مباشرة أن الذي تراه هو جمال مضى، سيكون مصيره إلى الزوال. على الضفة الأخرى من النهر قلة من أدباء بنَّائين، يهتمون بخلق تربة تعيش فيها نصوصهم، يكتبون في بنية مفتوحة، هجينة، محملة بالتفاتاتها، ترنو إلى التجدد، من خلال اللعب، يصعب استهلاكها، والتخلص منها – بعد ذلك- لأنها تظل جديدة دائمًا، تنتظر شريكها في اللعب. هذا هو الفرق بين "نصِّ لذةٍ يقنع، ويُفْعِم ويمنح الغبطة، ويأتي من ثقافة لا يُنفصل عنها، مرتبطًا بممارسة مريحة للقراءة. ونصِّ متعةٍ آخر، يضع المتلقي في حالةٍ من الاستلاب، ويرهقه "ربّما إلى حَدٍّ قريب من الملل”؛ ذلك لأنه يهزّ الثوابت التاريخية، والثقافية، والنفسية، لدى القارئ، ويُبَدّل من قوام تذوقاته، وقيمه، وذكرياته، ويضع موضع الشك علاقته باللغة. هناك نصيحة شعرية صينية لا أتفق معها تقول: "توقف عن التنقيح ما أن تعثر على لقيتك"، أما أنا فأقول: ابدأ التنقيح ما إن تعثر على لقيتك، التنقيح وسيلة ناجعة من وسائل اللعب، فالجملة حصان قد يجمح بك في النص الشعري، أحيانًا تحتاج منك أن تربت على ظهرها، وكثيرًا ما تحتاج منك إلى أن تُساط! قد يوقع هذا الأسلوب اللعبي الشاعر في الخطأ، لكنني كنت وما زلت ممن يرون أن اقتراف الخطأ في الشعر ضروري للشعر، وللشاعر بورخيس وأنا على حدًّ سواء. الحياة في قصيدة * كيف تتعامل مع المتلقي من خلال نصك الإبداعي. هل ترغمه على استقبال النص بطريقة تقصدها منذ البداية؟ سؤال المتلقي في اعتقادي الجمالي سؤال لاحق على الكتابة وليس سابقًا عليها، يقول بورخيس: “أنا لا أكتب لهراء أفلاطوني اسمه الجماهير، ولا لهراء آخر اسمه النخبة، أنا أكتب لي وللأصدقاء، كي أخفف مرور الزمان”. هذه المقولة تعبر عني، وعن تجربتي في علاقتي بالمتلقي، فمن تأمّلي الخاص لتجربتيّ النقدية والشعرية، أدركت إنني كنت أحاول -في أعمالي- الهروب من التراث، لكنني وقعت كثيرًا فيما تحريتُ الهروب منه، ربما تحوّل قارئي إلى راوية يحتل مكانه في داخل بنية النص، قد يكون ذلك هو العنصر التراثي الوحيد الذي لا أريد تحطيمه، وأتمنى أن أنجح في استبقائه في أعمالي الشعرية القادمة، ذلك، بعد أن هربت من مقام القصيدة إلى فضاء الكتلة/ النصّ. ويظل سؤالي الأساسي في كل عمل جديد هو: كيف يمكنني أن أنجز نصوصًا شعرية دون أن أقطفها؟ ما أن يدخل المتلقي إليها حتى يتحرك باتجاه حركتها، ويشعر بتغير ألوانها مع الزمان، بشحوبها في فصل، وبصحتها في فصل آخر، إنها حية دائمًا، إن الحياة، هي القيمة الوحيدة التي أبحث عنها في قصيدتي.