تعود مصر لتعلمنا أن الشعب خير من قادته ومثقفيه وأحزابه، وأنه يستحق الحرية ليقرر مصيره بنفسه. مر زمن طويل عمّ فيه الاستبداد واكتملت حلقته، ومن صنوفه أن استبدت النخب الثقافية، وبدورها استبدلت إرادة الناس بإرادتها الخاصة، واستمرأت أن تقرر عنهم ما يليق بهم ولا بالناس، وطالبتهم بالسير خلفها وترديد كلماتها. ادعت أن مصلحة الشعب حكمة لا يعرف أغوارها إلا الحكماء، وأنها بخلافهم قادرة على تشخيص الواقع والإتيان بالحلول لمشاكل أضمرت، وفي حالات أعلنت أن سببها قصور وعيهم، وفسادٌ مقيم فيهم. اليوم يسقط هذا الدور والمنطق، فقد اختار الناس طريقهم بأنفسهم عبر الديموقراطية المباشرة، وقرروا النزول إلى الشارع للتعبير عما يريدونه، معلنين أحقيتهم بتقرير مصيرهم بأنفسهم. منذ أن اطلع أول التنويريين العرب على التجربة الاوروبية الجديدة في الحكم، حيث تقر الدولة للشعب بسيادته عليها، ويتحول الحاكم لموظف لدى الشعب بعد أن كان سيده لعصور مضت، أصبح التحدي هو إثبات جدارة شعوب منطقتنا بهذه العلاقة. إلا أن استعصاءات، ليس أقلها أهمية الاستعمار وحل مشكلة الفلاحين وضعف تطور المدينة (الفضاء المفترض لنضج الوطنية)، خلقت تحديات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومنها تشكلت قضايا ثلاث عالقة وُضع بعضها قبالة بعض: السيادة الوطنية، العدالة الاجتماعية، والديموقراطية، ومن أجلها رفعت شعارات من وزن «وحدة، حرية، اشتراكية». إلا أنه في الواقع، وبخلاف الشعارات، تم التضحية بالوحدة والحرية مقابل شيء من الاستقرار الاقتصادي حققته الدولة الريعية، وأتى معها حكم القلة الذي أخذ يتحول إلى حكم سلطاني رويداً رويداً، فعمّ الاستبداد كما ذكرنا، وشاركت القوى السياسيةُ، على أنواعها، السلطةَ الشمولية رفضها لجدارة العامة، مرة باسم الطبقة العاملة، وأخرى باسم الإسلام، وثالثة بحجة المتآمر الخارجي الذكي الذي يستطيع أن يضحك على عقولنا الصغيرة، ولكن في كل الحالات باسم طهارةٍ أيديولوجية زعموها لأنفسهم. منذ ذاك الوقت ونحن أسرى أيديولوجيات تتلون وجوهرها واحد: للسيد الطاهر الأحقية التي لا تنازَع على حكم الرعاة الخطاة. بعد تونس، مصر علمتنا أننا نعيش نهاية الأزمنة القديمة، وأننا شببنا عن الطوق وأصبح بإمكاننا الاختيار. وبما أن الزمان مديد، والقيامة لا تزال بعيدة، فبإمكاننا أن نتعلم من تجربتنا كيف نكون أفضل. حق الخطأ مكفول لأننا نستطيع العودة عنه، طالما أن التجربة تساعدنا على استخلاص النتائج والتعلم منها، فعمت الثورة على آباء غير شرعيين ورثوا عن الآلهة -متسلحين بفتاوى شرعية من فقهاء السلطة- حقَّ تحديد الحق من الباطل. في هذه الأيام، تعود مصر للميدان مرة أخرى، لتقوم بإعادة تصويب المسار، بغية أن تفرض على جميع الأطراف العلاقة التي أرادتها مذ خرجت أول مرة: السيادة للشعب، والشعب يريد. ولتبرهن للقوى السياسية، التي ما زالت تنظر إلى الشعب كجمهور تجمعه وترده إلى بيوته متى تريد، أنهم شركاء للسلطة في غيّها، وأنهم لم يتعلموا الدرس بشكل جيد. ما يقال هناك بكلام واضح لا لبس فيه هو: أن الثورة لم تكن فقط على شخص الرئيس المخلوع حسني مبارك، بل على النظام السياسي برمته، بما فيه المعارضة، وعلى الجوهر الوصائي للحياة السياسية، وأن «الشعب يريد» يعني أن على القوى السياسية أن تعمل ما يريد، أن تعبر عن الاتجاهات التي تتضمنها الإرادة الشعبية. وللتناسب مع هذه الإرادة، كان يفترض أن تنتفض الأحزاب على أيديولوجياتها، وأن تطوى تجربة الإخوان المسلمين والشيوعيين الستالينيين وكل الوصائيين، ويفترض أن تُبنى من نقد تجربتهم، تجاربُ جديدة تقر للشعب بسيادته. في الواقع، لم يحصل ذلك للأسف، بل إن الإخوان المسلمين والسلفيين أصروا على ليّ عنق التاريخ، وعادوا لشعاراتهم الاستبدادية، فالأولوية عندهم هي حكمهم، فدعوا الجمهور إلى الميدان بغية إظهار حجم قوتهم، وطالبوا بتسليم السلطة فوراً، معتبرين أنها ستكون لا محالة لهم. وبعدها أوعزوا للناس بالعودة لبيوتهم آمنين، فالرسالة وصلت وكفى الله المؤمنين شر القتال. أما الشعب، فكان له رأي آخر، وخرج رغماً عنهم ليقوله. في مصر عادت الثورة للميدان، وأفضل الثورات هي تلك التي نعيشها، فهي لا تبشّر بالاستبداد كما ثورات عدة عرفها التاريخ. اقتصارها على الإصلاح السياسي عَكَسَ إدراكَ الناس -نتيجة خبرتهم المديدة بصنوف الاستبداد- أنّ تبدل الظروف والتحديات، وبالتالي الإجابات والحلول، يجب أن ينضبط بالتعدد وقدرتهم على الاختيار وإعادة الاختيار، وهو ما يفترض أن تُجري النخبةُ السياسية والثقافية، استجابةً له، مراجعةً شاملة لوعيها وتصوراتها ولدورها، بالحدود التي تتناسب مع ما يريده الشعب منها. وفي رفض النظام السياسي «سلطة ومعارضة» اللحاق بالركب الشعبي، فعلاً وليس قولاً، يُجبَر الشعب على أن يصل للاعتقاد أن التغيير مستحيل من دون إسقاطهم جميعاً عن عروشهم. حتى اللحظة، لا يزال الباب مفتوحاً، لعلّنا جميعاً ننهي ترددنا ونلج فيه.