دار نقاش بين من يقول: إن الثورات العربية قامت بلا أيديولوجيا، وإن هذا زمن "نهاية الأيديولوجيا" أو القول بنهاية الأفكار وبداية الأعمال، وإن ما حدث من ثورات عربية كان هبة عامة على مظالم، وليس وراء ذلك أفكار أو أيديولوجيا. هنا أحاجج: إن الأيديولوجيا اختفت أو تراجعت حيث يجب أن تفعل ذلك، وحيث تنتصر المصلحة العليا للأمة على مصالح الفئات والأحزاب، فالأمة كانت في حال حرب مع محتل داخلي، تماما كما يمكن أن تكون في حالة حرب مع محتل خارجي، وفي هذه الحالة يجب أن تغيب السياسة الداخلية والأفكار الجزئية، وتعلو فكرة واحدة وحجة متماسكة شاملة تساعد الجميع على الصمود والوحدة لحسم المعركة مع المحتل الداخلي. " ارتقت الأمة في لحظة المحنة والثورة لتتجاوز عقبة المذهبيات، ولكنها ستعود يوم يبدأ التمييز بين المنتصرين وتقسيم الغنائم " فلم تكن لحظة الثورة وقتا لوصفة تفصيلية تقدمها إحدى المدارس لتعرّف الشعب كيف يعيش ولا كيف يتدبر أموره، فارتقت الأمة في لحظة المحنة لتتجاوز عقبة المذهبيات، ومارست الحق في إقصاء العقائد والرايات الجزئية في الملاحم الكبرى، ولكنها ستعود يوم يبدأ التمييز بين المنتصرين وتقسيم الغنائم، فبعد نهاية المعركة سيأْرَز كل فريق إلى أيديولوجيته وهذا تحدٍّ جديد. إن علينا حين نرى الثمرة ألا ننسى الشجرة، ولا أن نحملها للمائدة. ليس هذا النقاش رغبة في أن نعقّد الأمور الميسورة، ونبالغ في وجود أفكار عميقة ومؤثرة لم تكن موجودة، فكم نتمنى أن تهبّ هذه الشعوب ضد المظالم دائما، ولا تحتاج لبناء فكري متعب وطويل، غير أنه بعد قراءة نصوص محترمة أصر كتّابها على غياب الأيديولوجيا عن الثورات العربية أجد نفسي أقول: لا، ليس صحيحا، فهذه الثورات حصاد مهاد فكري وبناء حقوقي طويل، ونتاج عمل مؤسسات وأحزاب وحركات وصحفيين وعدد هائل من المثقفين ومن المحتجين وعامة الناس الذين يذوقون مرارة الاستبداد، إلى أن أصبح المجتمع جاهزا للعمل، وكانت العدالة والحرية والديمقراطية ثقافة ترسخت كحلٍّ شمولي للمأساة في الأذهان كادت أن تكون حلولا مشهودة، وأكبر من إمكان تجاوزها للتفسير بغيرها، فغلب الخطاب الشمولي على أجزائه. كان النظام القديم يحاول أن يجعل من نزواته وتبعيته أيديولوجية في وجه أيديولوجيات حقيقية أو متخيلة: (دينية وقومية ووطنية) وشعارات المستبدين قالت: "لا قومجية، ولا إسلاموية"، والكلمات منحوتة أو مستوردة للتشويه المحلي وتبرير الإلحاق، والقبول بسيادة مناديب لمصالح الآخرين، أو تصوير المنافع الذاتية للمستبدين بأنها مصالح وطنية وهم حُماتها. فكان المستبد التابع يحرص أن يقدم نفسه على أنه الخير في حرب مع عقائد الشر، وكان من نجاح الثورات التي يحسب لها في الذكاء حسن التعامل مع سلاح الخصم بالتخلص من السلاح المدّعى أنه لها وتحمله، فقالت للطغاة: ها نحن نخرج ضدك، ليس فقط مجردين من السلاح المادي الذي تتمنى أن نحمله، بل حتى بدون السلاح الأيديولوجي الذي تعرفه وتخيف الناس منه، إلا حقوق إنسانية مشتركة يسلّم بها كل العالم، ولا تجعلهم في خلاف مع خصم في الخارج ولا في الداخل إلا الاحتلال الداخلي من خلال إدانته بفساده المشهور، وتجريد النفس من كل علائق قد تضره في مواجهة خصمه. وكانت هذه الإستراتيجية صحيحة ونجحت، وربما لم ينفق أصحابها وقتا طويلا لتأملها، ولكنها عفوية إلى حد كبير، وهذه حالة من الأحوال الأيديولوجية فقط، وهو التخلي المؤقت عن نفسها لتعلي من استجابة لتحدٍّ أكبر منها. فالأيديولوجيا تحرص أحيانا على الاختباء وراء أحداث وحقائق كحرصها على التمركز والعلن والتأثير في أحوال ومواقف أخرى، فالأفكار والأحزاب والجماعات الشهيرة والصغيرة كانت على مدى سنين تعمل في الوعي العربي والإسلامي وفي اللاوعي، وتصوغ أفكارا ومواقف من كل شيء تقريبا، موقفا من الدين واللغة والقومية والسياسة ونظم الحكم، وحالات الإيمان أو التمرد عليه، والشريعة تطبيقا ونبذا والعدو تحديدا، وأساليب مواجهة. ولكن تبين للجميع أن سُمّا داخليا يفتك بالجسم السياسي والأخلاقي والروحي ويحطم روح الأمة، والكل يتحدث عنه ولا يجتمع لمواجهته، ثم كانت المواجهات الصغيرة والكلوم الغائرة هي التي قدحت نيران المواجهة العظمى، وسبقتها كل الإرهاصات، وأسست للمواقف الفكرية والثقافية العامة. إن من تعرف على أي ثورة قديما أو حديثا في تاريخنا أو تاريخ غيرنا يجد أن هناك مصائب حكومات تصنع أفكارا مضادة للخروج من مصائبها، ثم تلحّ على التأثير، وتنتصر في نفوس المؤمنين بها قبل أن تخرج للعمل منذ الثورة العباسية، فضلا عما سبقها ولحقها من الثورة الروسية إلى الثورة الإيرانية فإنها كلها شربت من ينبوع أفكار تنتقد وتصف الحل، أو "تخلّي وتحلّي" بحسب مصطلح المربين، وما كان "فولتير" يحتفل في نهاية حياته بمستقبل الثورة والتغيير في فرنسا إلا أنه كان يرى التغيير قادما لا شك فيه، ويرى الأفكار تلتهم أمة راكدة وتخرجها للحياة، ثم تصبح الثقافة أو الأيديولوجيا زادا للاحتجاج المنظم وشبه المنظم، ألم يكن "سيد قطب" يكاد يرى المستقبل عيانا كما يريد؟ وكذا "الغنوشي" و"منصف المرزوقي"؟ نعم، إن المستقبل يولد على غير ما تصوره من يعمل له، ولكنه يحقق لهم بعض أمانيهم إن لم يكن كلها. " الأيديولوجيا حاجة بشرية لكل عمل، فكل عمل يحتاج لفلسفة تقنع الفرد الممارس له، ثم بمقدار نفوذه وعلاقاته يحاول أن يشرحه لغيره، حتى يجعله عقيدة عامة " والحقيقة أن الأيديولوجيا حاجة بشرية لكل عمل، فكل عمل يحتاج لفلسفة تقنع الفرد الممارس له، ثم بمقدار نفوذه وعلاقاته يحاول أن يشرحه لغيره، حتى يجعله عقيدة عامة، وكلما استسلم عدد أكبر من الناس لهذه العقيدة بسط الفرد هيمنته، فيتجاوز إرادته أو رضاه عن صحتها وفائدتها، فيستعبده انتصاره حتى عندما يخطئ، وهذا ما جعل ويجعل كثيرا من صناع الأيديولوجيات يتبرؤون ويخافون من اتباع الناس لهم، إما بدافع التواضع والسمو للحق الأعلى منهم، أو للقدَر الذي ظهر أنه يخالفهم، أو بدافع الخيرية المغروسة في نفوس بعض صناع الأفكار، أو لأنهم يرون أن الناس سيعرفون ضعفهم في تسخير الناس لفكرة كانت يوما حقا وتبين خطؤها، ولم يملك صاحبها الشجاعة للتمرد على قوله ومذهبه ذات يوم، وهذا أشبه بموقف التجرد للحق. ونماذج هذه النزاهة الفكرية عديدة جدا في ثقافتنا وعند غيرنا، ولعل من أمثلتها أولئك الذين منعوا الكتابة عنهم، ومنعوا تقليدهم، وأيدوا نقض أقوالهم بأنفسهم أو من قبل غيرهم. إن شروط نظريات الثورات -إن صحت- توضع على الرف مؤقتا، فلا أيديولوجيا محددة، ولا يوجد زعيم ملهم، ولا تنظيم قاد الثورات العربية. فإن كانت الثورة الفرنسية سبقها عصر مكافحة شديدة للمسيحية واللاعقلانية والاستبداد، وفي روسيا أيديولوجية نظرية شيوعية قاسرة، وفي إيران تنظيمات ومواجهة للاستعمار ووكيله، وكانت مثقلة بانتقام ديني ممن حارب الدين باسم الحداثة -فإن الثورة العربية لم تكن تماما هذا ولا ذاك، بل كانت ثمرة للحاجات المغيّبة، وثمرة لخير ما في الأيديولوجيا، ولكنها لم تردد الأيديولوجيا، فشعار "الإسلام هو الحل" خفت في ميادين الاحتجاج، و"ثورة الخبز" توارت، و "تحرير فلسطين" لم يتاجر به أحد، وتعالى خطاب الحرية والكرامة والديمقراطية، ربما لأن هذا الخطاب الشمولي يخدم الخصوصيات الأيديولوجية الفرعية. الذين خرجوا من شتى الأطياف كان لكل منهم قضيته، ولكل أيديولوجيته الخاصة، غير أنه كانت لهم قضية واحدة جامعة، فاستطاعوا تأخير الخلافات وتقديم الأولويات، والأولوية في المجتمع العربي مواجهة السم الذي يفري في القلوب والعقول والاقتصاد والسياسة والكرامة وهو "الاستبداد"، ولهذا كان على درجة من الوضوح والقبح بحيث لا يقدم أحد على شرّه شرا، فكان مَجمع الخبائث وسر التعثر، وعين الأفراد والأفكار عليه لا تخطئه، وكان التركيز عليه أساس النجاح. ثقافة المجتمع تشبعت بكل الخطابات الإسلامية والقومية واليسارية، وثمرتها خطاب التحرر والديمقراطية، فقامت تنادي بحصاد ذلك، وحاجتها الإنسانية مصنوعة في قالب لا يدين لفكرة ولا مدرسة محددة، إلا فكرة خلاص الإنسان المقموع الغائب الذي لم يسمح له أن يشارك من قبل في شيء ليقول: "أنا هنا، سأحوز كل شيء، بعد أن حرمني المستبد من كل شيء". إنه موقف شمولي يستعيد كل ثمرة الأفكار، ولا يسخر نفسه للأفكار ولا للمدارس ولا للأحزاب، بل ينفذ خير غاياتها. ولذا، فلم تغب الأيديولوجيات عن الثورة العربية، لا بل نضجت الأيديولوجيات فوصلت لغايتها من المرحلة الأولى، وعقلت فأزاحت أطرافها الحادة، واجتمعت على الاهتمامات الكبرى، فالعمل السياسي يقتضي التعاون للإنجاز الذي لا يتم إلا بتجاوز القطعيات الحادة، ولهذا كان من أول واجبات الفئة الإصلاحية والثورية مواجهة التطرف الأيديولوجي؛ لأنه طعام الاستبداد اليومي. وحتى تستمر الثورات لتنجح فلا بد لها أن تخفف من تطرفها ومتطرفيها مستقبلا؛ لتستطيع تحقيق غاية الأفكار المعتدلة الصالحة للحياة ولسعادة الإنسان، وبما أن من أهم غايات السياسة فض المنازعات وجلب المصالح والسعادة للإنسان، فإن ما بعد الثورات يحتاج لتجنب التطرف الأيديولوجي؛ لأنه قد يفتك بمكاسب الثورة. كان تعليقي على ندوة عن الثورة في تونس، شارك فيها "المنصف المرزوقي" و"حمادي الجبالي" و"عبيد البريكي" و"عبد اللطيف عبيد" في الدوحة يوم 21/4/2011م أن القدرة على تجاوز الحفر الأيديولوجية والمنافع الضيقة أثبت جدواه في ميدان الاحتجاجات، فالتونسيون والمصريون أحوج لهذه القدرة في مرحلة انتصار وتحقيق غايات الثورة، وكما كان الهدف الأعلى -طرد المفسد المستبد- جامعا للشعب، فإن الوصول للأهداف العليا يجب أن يوحدهم في المرحلة القادمة. أما الثوار في مصر فكانوا واضحين في أنهم جدد، ولكن كلامهم عن الجدة كان يعني أنهم خلاصة تلك المحاولات، وليسوا تماما أولئك المحاولين الأول، إذ لما حاول الكبار الدخول على سياسة اللحظات الأخيرة في الثورة كادوا يفسدوها، والقدامى يعملون الآن مع غيرهم لاحتوائها لمصلحتهم أو لغيرهم، ويبقى الشباب أقدر تنفيذا، وأقل تنظيرا ومكرا. " إنها ثورات أحسنت هضم قصة الأيديولوجيا، وأحسنت وعي الأفكار والتصرف بها، فقيمة الفكرة العظمى هي في تنفيذها في الحياة اليومية وفي السلوك الشخصي " وفي لحظة القطاف على المتمتع بالثمرة أن لا ينسى أنها من شجرة الاحتجاجات المتكررة، وأفكار التحرر والنقد لما كان سائدا، وامتداد للنجاحات المجربة في العالم. إنها ثورات أحسنت هضم قصة الأيديولوجيا، وأحسنت وعي الأفكار والتصرف بها، فقيمة الفكرة العظمى هي في تنفيذها في الحياة اليومية وفي السلوك الشخصي، وإلا فما هي إلا متعة ذهنية تعبر ببعض العقول. إن مبادرات المثقفين في صنع وترويج الأفكار السياسية العملية النافعة، هي التي تجعل الناس يقدرون قيمة الأفكار في تنوير العقول وتوضيح المسارات المستقبلية للأمة، فإذا خفتت صراحة الأفكار حينا، وقللت من وضوح تحيزها وانتمائها، فلمصلحتها ولمصلحة المجتمع، أما حين يستعرض المثقفون والحزبيون شعارات تميزهم عن غيرهم لتبحث عن استقطاب شخصي أو حزبي، فتلك انتهازية سياسية على حساب مصلحة الأمة. فالذي يحتاجه مجتمع ليبني حياته ليس "أيديولوجيا واحدة جاهزة" ولا صراع الأيديولوجيات، بل حصاد ذلك أي الأفكار في مرحلة النضج والتنفيذ العملي لها، وهو المصلحة العامة المستخلصة من مساهمة هذه الأفكار في حل المعضلات، إنها الفكرة في ميدان العمل وهذا ما تحقق بدؤه. ختاما: قيمة الفكرة هو ما تقدمه لنا لا ما نقدمه لها، وعلى الذين لم يروا الثمرة عندهم أن يعلموا أن بذور شجرة التحرر مغروسة في القلوب، وعليهم سقيها بالوعي والتدريب والتعريف بالمظالم وطرائق رفعها حتى يروا ثمارها، في جمع فاعلية الأيديولوجيات لصناعة المتفق عليه أو الضروري، وتأخير أو إخفاء الخصوصيات.