قد تكون الثورات المضادة للاستبداد التي عرفتها وتعرفها بلدان عربية عدة، وما حفزته من ردود فعل متجاوبة أو ممانعة في بلدان أخرى، وجملة التفاعلات الفكرية والنفسية التي أطلقتها في العالم العربي ككل، أهم ظاهرة سياسية عرفها العرب منذ استقلال بلدانهم قبل خمسة عقود أو ستة. ولقد درج منذ سنوات مدرك الاستقلال الثاني للتعبير عن إرادة التخلص من الاستبداد، ووضع هذا الإرادة في سياق تاريخي تحرري تمثلت حلقته الأولى، «الاستقلال الأول»، في التخلص من الاستعمار. ومضمون الاستقلال الثاني هو الثورة الديموقراطية التي يبدو أن تونس ومصر تخطوان خطواتهما الأولى على دربها الطويل. والثورة الديموقراطية هي العنوان العريض لتحول تاريخي كبير، يرجح أن يشمل العالم العربي بكيفيات متنوعة. أو هي اليوم «القانون» العام الذي يتحكم بتطورات أوضاع المجال العربي، فلا يبقى شيء منها بمنأى عنه. لا نزال في طور مبكر من هذه العملية التاريخية، المركبة والمديدة من كل بد. ولا يتحتم أن تمر كل بلداننا بما مرت به تونس ومصر من تحركات شعبية واسعة تمخضت عن سقوط رأسي النظامين، والتوجه نحو إعادة بناء الحياة السياسية والقانونية على أسس جديدة. منذ الآن نرى تنوعاً في النماذج. الأمر مختلف في اليمن، وفي ليبيا، وهو مختلف في المغرب حيث تعمل المؤسسة الملكية على ان تكون صاحبة المبادرة في التغير السياسي، ويرجح له أن يكون مختلفاً في البلدان الأخرى. ما ليس مختلفاً، وما لن يكون، هو في تقديرنا تقادم صيغة الحكم القائمة. ومنذ الآن يتكون معسكر استبدادي، مضاد للثورة الديموقراطية، ويجتهد بكل ما يستطيع لقطع الدرب عليها أو لرفع كلفتها إلى أقصى حد. واللافت أنه يضم نظماً ومنظمات تثابر على العيش في زمن الاستقلال الأول ومنطقه وتنظيماته. على أنه حتى في البلدين اللذين حققا ثورتيهما، يرجح لطريق التحول نحو الديموقراطية أن يكون وعراً وبالغ المشقة. كان الأمر كذلك في بلدان أخرى سبقتنا، بخاصة البلدان الأكبر. لكن كذلك لأن بلداننا تراكم مشكلات كبرى، اجتماعية وسياسية واقتصادية، غير محلولة. أو هي متعفنة وعلاجها شاق. ومن أهم المشكلات التي نقدّر أن تواجهها الثورتان في وقت غير بعيد المشكلات الثقافية والأخلاقية. إذ إن التحرر السياسي يبقى هشاً وسلبياً من غير أسس روحية وفكرية وقيمية ينهض عليها. الثورات بحد ذاتها لا تحل المشكلات العسيرة، لكن يفترض أنها تزيح العوائق الأقوى أمام معالجتها. والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب به الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد المستقل الضمير والعقل، والطليق المخيلة والإرادة. يتعلق الأمر بثورة ثقافية، تبدع الجديد في كل مجالات الحياة، وتعيد هيكلة القديم بصورة تتوافق مع الإبداع والحرية. وهذا يمر بصورة محتومة عبر الاشتباك الفكري والنفسي والأخلاقي مع المجمل الإسلامي، لكونه مصدر القيم والحساسية والنماذج الأولية المهيمنة في ثقافتنا. وقد يكون مناسباً إدراج هذا التطلع تحت مفهوم الاستقلال الثالث. فإذا كان المضمون الإيجابي للاستقلال الأول قيام الدولة الوطنية المستقلة، وللاستقلال الثاني ظهور الشعب السيد، فإن مضمون الاستقلال الثالث هو قيام الفرد المستقل المبدع للدلالات والقيم. لا يوفر الاستقلال الأول أية ضمانات ضد الاستبداد، بل قد يؤسس له، عبر منح قيمة مطلقة للوحدة الوطنية في مواجهة الاستعمار. وبالمثل، لا يوفر الاستقلال الثاني أية ضمانات ضد الهيمنة الروحية والدينية، بل قد يؤسس له عبر الإعلاء الحصري من شأن الشعب والحرية السياسية. لكن يحتمل جداً للاستقلال الثاني، الديموقراطي، أن يتفرع من مضمونه التحرري ما لم يستكمل بتحرر ثقافي وأخلاقي، على نحو ما تفرع الاستقلال الأول من مضمونه بسبب توقفه عند بعده السلبي، الخاص بالتخلص من السيطرة الاستعمارية. ليس في هذا التقدير ما يعترض على حق مشاركة الإسلاميين في تونس ومصر وغيرهما في الحياة السياسية، ولا ما يوجب مخاصمتهم والعمل على عزلهم. حيثما حصل أن ضُرِب الإسلاميون سياسياً وأمنياً، ضرب غيرهم، وسهل ضربهم إقامة حكم استبدادي متطرف، عانى منه يساريون وليبراليون، وعموم السكان، بدرجة لا تقل كثيراً عن معاناة الإسلاميين. جرى ذلك في مصر نفسها، وفي تونس نفسها، وفي سورية، وفي الجزائر. لكن موقفاً مبدئياً ينحاز إلى إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية لا يتعارض مع النقد الفكري والقيمي للفكر الإسلامي، ولا مع العمل على إصلاح عميق يمس موقعه العام وبنيانه الذاتي، ولا بالطبع مع نقد تفكير الإسلاميين وسياساتهم وخططهم. وقد يمكن تلخيص المبدأ المحرك لهذا النقد في أن الحرية لا تتجزأ، والحرية السياسية إن لم تستكمل بحرية فكرية وروحية وأخلاقية فإنها قد ترتد إلى ضرب من الاستبداد الجمعي، اللاغي للفرد ومبادراته وإبداعيته. ونقدر أنه بعد حين، سنوات على الأكثر، ستكون التوترات والتناقضات بين الحرية السياسية والتقييد الديني والفكري هي ما يشكل ميدان المعركة الثقافية الأساسية في مصر على الأقل. ثم إنه ليس في مبدأ الاستقلال الثالث (من السلطة الدينية) ما يتعارض مع النقد الجذري للتيار الثقافوي الذي دأب في العقدين الماضيين على تعريف مجتمعاتنا وتفسيرها ثقافياً، أي دينياً، أي إسلامياً. لا يقول هذا التيار إن لدينا مشكلة ثقافية، بل يجعل منها أم المشكلات، ويرهن معالجة وحل أية مشكلات أخرى بها، بما فيها التسلط السياسي، ما يضعه في موقع محافظ سياسياً، يصل أحياناً إلى حد معاداة معارضي الأنظمة القائمة غير الإسلاميين. هذا مع إغفال التيار الثقافوي أية مشكلات أخرى، اقتصادية أو حقوقية أو جيوسياسية. لكن لا قيمة لنقد الثقافوية إن لم يكن مدخلاً إلى نقد الثقافة، وإلى العمل من أجل التغير الثقافي والثورة الثقافية. أبطلت الثورات السياسية عقيدة الخصوصية والاستثناء العربي أو الإسلامي، التي يصدر عنها الثقافويون، لكنها ستظهر بحدة أكبر عوزنا الثقافي، وحاجتنا إلى مزيد من التعلم والاكتساب، وإلى تشكيل جديد للموروث. من وجهة نظر تاريخية، قد يبدو أن الثورة الديموقراطية هي شرط إمكان النقد العام لنظام التبعية الدينية وللثورة الثقافية، على نحو ما كان الاستقلال الوطني شرط النضال ضد التبعية السياسية ومن أجل الديموقراطية. وهو ما يوجب على الفور الانخراط في الصراع الثقافي والفكري، دفاعاً عن وحدة الحرية وتكاملها. نقلا عن الحياة السعودية