بددت الموجة الثانية للثورة المصرية في 30 حزيران (يونيو)، وكذلك عملية الكرامة الليبية التي يقودها اللواء حفتر القيادي السابق في الجيش الليبي وهماً كبيراً راج في شوارع القاهرةوطرابلس وأوساط النخبة السياسية بعد ثورتي 25 كانون الثاني (يناير) و17 شباط (فبراير) وهو أن جماعة «الإخوان المسلمين» وذراعها السياسية الحرية والعدالة في مصر وحزب العدالة والبناء الذراع السياسية ل «إخوان» ليبيا هما الأجدر بإدارة المشهد عقب رحيل مبارك ومقتل القذافي. ف «إخوان» مصر وفق اعتقاد كثيرين هم امتداد لثورة 25 يناير وإن جاؤوا إلى ميدان التحرير فرادى وعلى استحياء، وبعد أن تأكدت الجماعة من أن مبارك إلى زوال، بينما «إخوان» ليبيا كانوا حجر الزاوية في نجاح ثورة 17 شباط التي أطاحت أقدم مستبد في العالم. فضلاً عما سبق، ففي القاهرة كانت ثمة قناعة لدى قطاعات معتبرة أوساط شرائح مجتمعية واسعة وبعض النخب، بأن الجماعة هي الأكثر تنظيماً وقدرة بما تملكه من موارد مادية وبشرية. والأهم من ذلك، فإنها وفق تصريحات قادتها وقت 25 كانون الثاني وحتى جولة الإعادة الرئاسية 2012، لن تحول دون تأسيس نظام ديموقراطي مدني تعددي يسمح بمشاركة كل القوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها في بناء مصر المستقبل. والحال كانت مشابهة في ليبيا، فقد دافع البعض عن أطروحات «إخوان» ليبيا وتصريحات قادتها في شأن المشاركة في صوغ الدولة الديموقراطية المدنية وبنائها بعيداً من المغالبة، وكان بارزاً، هنا، ما قاله القيادي في الجماعة محمد عبدالمالك: «إننا نريد المشاركة في الحياة السياسية للبلد فى مرحلة ما بعد القذافي. نريد من الغرب أن ينظر إلينا كحزب سياسي وليس كمُلَّا (أفغاني) يرتدي العمامة». صحيح أن الحجج التي سيقت آنذاك بدت واهية لدى بعض العالمين ببواطن «الإخوان»، إلا أن الصورة الذهنية للجماعة في الوعي الجمعي المصري والليبي باعتبارها كانت أشد المقهورين طوال عهد مبارك والقذافي فضلاً عن أن البعض اعتبرها نموذجاً حياً لأطروحة الفيلسوف جون ستيورات ميل بأن المصلحة العامة غير قابلة للتجزئة، وبالتالي يصبح التصويت لمرشح الجماعة محمد مرسي في انتخابات 2012 الرئاسية، أو لمصلحة مرشحي الجماعة في المؤتمر الوطني العام في ليبيا هو عين المصلحة العامة في مواجهة روافد دولة مبارك وجيوب نظام القذافي. غير أن أبعد الظنون تحقق، إذ سارت مصر وليبيا في طريق متعرج مع إمساك الجماعة بمقاليد الحكم، ففي القاهرة قفزت سريعاً على تعهدات فيرمونت مع القوى المدنية قبيل جولة الإعادة الرئاسية بين مرسي وشفيق وتنصلت من شروطها الملزمة، وفي طرابلس ظلت عاجزة عن بلورة مشروعها أمام الجماهير أو تطبيق شعاراتها القديمة على أوضاع الناس في حياتهم الاجتماعية اليومية. وسار «إخوان» القاهرةوطرابلس في اتجاه معاكس لم تحدد ملامحه بوضوح، إذ قامت سياسات القاهرة آنذاك تارة على مغازلة حلفائها وتارة على تشويه الخصوم، فضلاً عن اختطاف مهام مؤسسات الدولة. وكان النموذج الأكثر بؤساً في تأميم السياسية الخارجية المصرية وقصر تحالفاتها الاستراتيجية على عواصم الموالاة مثل أنقرة والدوحة وتونس. وفي طرابلس سعت جماعة «الإخوان» إلى بسط سيطرتها وهيمنتها على المشهد وتقرير مستقبل الدولة وفقاً لرؤيتها، ناهيك عن تهميش الآخرين وإقصائهم في إطار نظرية المباراة الصفرية، لذلك ليس غريباً أن يتحول أي خلاف سياسي ينشب بين تلك التيارات والمجموعات المناوئة لها إلى صراع مسلح. وتجلت معضلة الجماعة، سواء في مصر أو ليبيا مجدداً في سعيها الحثيث إلى الإمساك بأعصاب الدولة الحساسة وتفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحاتها السياسية، فسخّر الرئيس مرسي سلطاته وصلاحياته للهيمنة المطلقة على مفاصل الدولة حتى أصغر شأن فيها عبر إقصاء معارضيه جنباً إلى جنب إقرار سلسلة من القوانين والتعديلات الدستورية السيئة السمعة. وفي ليبيا هيمن «الإخوان» على البرلمان، وكذلك الإمساك بأعصاب لجنة الستين التي تم انتخابها في نيسان (أبريل) الماضي، والمنوط بها إعداد الدستور، وكان بارزاً هنا، انتخاب القاضي التواتي بوشاح القريب من جماعة «الإخوان» رئيساً لها، وهو من أبناء البيضاء مقر عمل اللجنة. واتسع الرتق بين الجماعة من جهة، والقوى السياسية وبعض القطاعات الشعبية من جهة أخرى في ظل تمسكها بتمرير تعيين أحمد معيتيق، رجل الأعمال القريب من الجماعة، رئيساً للحكومة خلفاً لعبدالله الثني، وهو الأمر الذي زاد من أوجاع الأزمة الليبية. (تراجع أنصارها في المؤتمر الوطني عن التعيين استجابة لحكم قضائي). هكذا، يبدو أن الجماعة الأم في مصر وامتدادها في ليبيا قررت استلهام أطروحة السوبر مان للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، والتي حولتها الحركات الشمولية إلى نظرية في القيادة السياسية، فراحت تبرر كل إجراءاتها الاستثنائية على أنها ضرورة لتلبية طموحات الأمة. والأرجح أن هذه الأخطاء لم تكن هي الأولى من نوعها للجماعة سواء مصر أو ليبيا، فقد دخلت طوال الوقت في صدام مع باقي مؤسسات الدولة، لا سيما في إطار مسعاها لتعزيز الرقابة السياسية على القضاء ومنح وزارة العدل دوراً أكبر بدلاً عن مجلس القضاء الأعلى، وكذلك محاولة تقييد الإعلام باعتباره حجر عثرة أمام طموحات الجماعة، فراحت تتهمهما بالفساد والعبث بمكتسبات الثورة. لكن الحق أن المعارضة المصرية والليبية ظلتا تفتقر إلى وحدة الرؤية والهدف، فلعبتا دوراً في تغيير طباع الجماعة وقادتها، وعززت قبضتها على مؤسسات الدولة، حين تفتتت في مواجهة أخطاء الجماعة وكوارثها أولاً، ثم الوقوف بالمرصاد لكل المشاريع التي طرحها النظام في مصر أو ليبيا، سواء كانت تتعلق بالإصلاح السياسي أو الاقتصادي وحتى المجتمعي، سواء من طريق القضاء أو عبر الإعلام الفضائي والآليات التكنولوجية الحديثة، لا لشيء وإنما كي لا تحسب للجماعة. خلف ما سبق لعبت سياسات الجماعة في مصر وليبيا دوراً لا تخطئه عين في ترسيخ حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي، وبدا ذلك في مصر، عبر الهجوم المستفز وغير المبرر سواء من قيادات الجماعة أو شيوخ الفضائيات على الأقباط. ودلل على ذلك حديث محمد البلتاجي القيادي في جماعة «الإخوان» عن أن المتظاهرين أمام الاتحادية اعتراضاً على الإعلان الدستوري الصادر في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، جلهم من الأقباط. ولم تختلف الحال عنها في ليبيا، فقد دخلت الجماعة في صدام واضح مع تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل الذي أعلن دعمه أخيراً لعملية الكرامة التي يقودها اللواء حفتر، وكذلك الطائفة الأمازيغية التي وصفت انتخابات لجنة الستين الدستورية بغير الشرعية. وعلى رغم حدة الأزمة التي كانت تعيشها البلاد، إلا أن البعض كان لديه أمل في أن يخرج الرئيس مرسي في مصر من عباءة الجماعة ويدرك أنه رئيس لكل المصريين، وعلى الجانب الآخر يتفهم «إخوان» ليبيا في المؤتمر الوطني العام أنهم ممثلون لشعب وليس لطائفة أو جماعة. وحيث إن هذا أو ذاك لم يحدث، كان صعباً إنهاء حال التوتر في الداخل المصري والليبي والتأسيس لتفاهمات جديدة بين النظام ومعارضيه، وكذلك معالجات التشوهات التي ألمت بالصورة المصرية والليبية في الذهنية الدولية. لذلك، ظلت أزمة الداخل في القاهرةوطرابلس تراوح مكانها، وظلت الجماعة تدير قصور الحكم باعتبارها شعبة من شعب الجماعة، كما ظل الحذر والترقب هو العنوان الأبرز في علاقات مصر وليبيا مع الخارج. غير أن أخطر ما في المشهد المصري والليبي على حد سواء، هو مساعي الجماعة في أن تسحب أطروحة السمع والطاعة التي يدين بها أعضاؤها، على المجتمع، من دون أن تعي أن السياق العام لهذا المجتمعات يقوم في جوهره على الفهم والطاعة. في هذا السياق العام لم يكن مفاجئاً خروج الاحتجاجات ضد «الإخوان» في 30 حزيران أو عملية الكرامة في ليبيا، فبعد أشهر قليلة تراجع زخم المسيرات المؤيدة للجماعة والكتابة على الجدران الداعمة لأحزابها الحرية والعدالة وأيضاً البناء والتنمية ناهيك عن تراجع التفويض الانتخابي الممنوح لقادتها في القاهرةوطرابلس عما كان عليه والذي كشفته مناخات التراجع في شعبية الرئيس مرسي في مصر واتساع الرتق بين «إخوان» ليبيا وشركائهم في ثورة 17 شباط، أو حتى تنظيم أنصار الشريعة المحسوب على أبناء عمومتهم من السلفيين، بعد تصنيفه من جانب واشنطن كجماعة إرهابية. القصد أن أعوام الجماعة في مصر وليبيا كانت أعوام التناحر السياسي بامتياز، أو عام حوار الطرشان. وبدلاً من السعي إلى إقامة شراكة وطنية أمينة ومستقيمة في إطار مشروع لإعادة بناء الدولة من دون احتكار السلطة فيها أو تغيير هويتها، غلبت الجماعة هنا وهناك البنية الفوقية التي تتعلق بالأيديولوجيا والقيم والأفكار على حساب البنية التحتية التي ترتبط بالآثار الاقتصادية المباشرة. وعلى رغم أن المناخ السياسي في مصر دخل مرحلة الشحن بعد عزل مرسي، ووصل الوضع في ليبيا إلى ذروة التأزم في ظل عملية الكرامة التي انطلقت في 16 أيار (مايو) 2014، فإن فرص الجماعة في الدولتين ربما تبدو معدومة. لذلك، كان الرفض القاطع الذي أبداه السيسي في حواراته التلفزيونية لعودة «الإخوان» إلى المشهد السياسي لأن مشكلتهم وفق السيسي «مع الشعب المصري الرافض أي شكل من أشكال المصالحة»، كان الوجه الآخر للأطروحة التي سوّقها حمدين صباحي بأنه لا مكان للجماعة على الخريطة السياسية الجديدة حال أصبح رئيساً. في السياق ذاته قد لا يختلف مصير «إخوان» ليبيا عن أقرانهم في مصر، خصوصاً أن اللواء حفتر قال في كل حواراته الإعلامية إن الهدف من عملية الكرامة التي تشنها قواته تطهير ليبيا من المتطرفين وجماعة «الإخوان المسلمين»، متوعدا في الوقت ذاته بتقديم قادة الجماعة إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الشعب الليبي خلال فترة توليهم السلطة. خلاصة القول إن الجماعة في مصر وشقيقتها ليبيا قد تفشل في البقاء في المشهد، أو عودة عقارب الساعة إلى الوراء. فمصر، على رغم محاولات تأجيج الوضع الأمني والاقتصادي، باتت قاب قوسين أو أدنى من إتمام خريطة الطريق التي وضعها الجيش بمشاركة القوى السياسية في 3 تموز (يوليو) بعد عزل مرسي، بينما ليبيا على رغم وعيد الجماعة بإفشال خطط عسكرة المشهد، فإن عملية الكرامة قطعت شوطاً كبيراً، لا سيما أن عملية الكرامة حظيت بدعم القوات المسلحة الليبية وتأييدها، فانضم إليه قائد القوات الخاصة للجيش الليبي وقائد قوات الدفاع الجوي وآخرون فضلاً عن قطاعات قبلية واسعة في الشرق، نجح حفتر في إقناعهم بالانضمام إليه في مواجهة الإسلاميين. في المقابل، فإن ثمة دعماً ضمنياً من جانب القوى الدولية لما يحدث في مصر وليبيا، ففي الأول تراجع قطاع معتبر من القوى الدولية عن وصف ما حدث في مصر بالانقلاب، وبدا ذلك في اتهام وزير الخارجية جون كيري في وقت سابق لجماعة «الإخوان» بأنها وراء ضياع الديموقراطية في مصر، فضلاً عن عودة فريق الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات الرئاسية المصرية 2014. في المقابل دفعت نجاحات عملية الكرامة، إلى تزايد حظوظها في الحصول على دعم دولي وإقليمي ضمني، خصوصاً واشنطن التي قتل سفيرها في أيلول (سبتمبر) 2012 عقب هجوم شنه مسلحون على القنصلية الأميركية في بنغازي شرق البلاد، الإسلاميين إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة في حزيران الجاري. * كاتب مصري