تعتبَر مسألة تقليص الفوارق الإقليمية في مستويات التنمية من بين المواضيع التي حظيت باهتمام بالغ في الآونة الأخيرة في الدوائر السياسية العربية، فالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المتوافرة تدلّ كلها على وجود تفاوت كبير في معدلات دخل الفرد ومستوى الرفاه الاجتماعي، وعلى اختلال واضح في توزيع ثمار النمو بين مختلف أقاليم البلد الواحد ومحافظاته. وفي ظلّ الدولة المركزية المستبدة عادةً يكون صوت الأقاليم، خصوصاً تلك المهمشة سياسياً، خافتاً، ونصيبها من الاستثمارات العامة ضعيفاً. وإذا كانت الدول العربية في أمسّ الحاجة إلى تحقيق نمط متوازن للتنمية بهدف الحدّ من الفوارق في المستوى المعيشي بين مختلف المناطق وضمان الاستقرار والتماسك بين السكان، فإنها تحتاج أيضاً إلى تحقيق نسب نمو اقتصادي مرتفعة من أجل إيجاد وظائف، خصوصاً أنها تعاني من مستويات بطالة عالية. لذلك، يبقى سؤال المواءمة بين الهدفين جوهرياً. إذ كيف يمكن التوفيق بين التشجيع على تمركز الإنتاج الضروري للرفع من الإنتاجية والقدرة التنافسية بهدف دعم النمو، وفي الوقت ذاته تحقيق عدالة أكبر في توزيع ثمار النمو على مختلف الأطراف؟ إن تمركز النشاطات الاقتصادية في رقعة جغرافية محدودة داخل البلد، ظاهرة تشترك فيها غالبية دول العالم ولا تختصّ بها الدول العربية. إلا أن تمركز الإنتاج حول أقطاب جغرافية محدودة لا يؤدّي حتماً إلى تباين مستويات المعيشة بين سكان الأقاليم المختلفة، فهذا التناقض بين التمركز الاقتصادي وبين التوزيع الجغرافي لثمار النمو سمة تشترك فيها الدول ذات الدخل المتوسط والضعيف كما هي حال الدول العربية. وتستدعي خطة تقليص الفوارق في المستويات المعيشية وفق المستوى الجغرافي التركيز في شكل متدرّج ومتكامل على الأبعاد الثلاثة الآتية: أولاً، العمل على التنفيذ الفعلي لمبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين بصرف النظر عن جهة إقامتهم. فقد أثبتت أحدث الدراسات حول الموضوع أن التباين في مستويات المعيشة بين الجهات لا يعود إلى ندرة الفرص الاقتصادية في الجهات الأقل نمواً، بل يعزَى في شكل أساسي إلى ضعف مؤهلات سكانها نتيجة عدم استفادتهم من التعليم الجيد والخدمات الصحية المناسبة. وهذه الإعاقة الناتجة عن غياب مبدأ تكافؤ الفرص بين مواطني البلد الواحد في مجال الولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، تضعف قدرتهم على تحسين مستوياتهم المعيشية داخل مناطق إقامتهم، كما تحدّ من فرص نجاحهم خارجها. ولعل هذا ما يفسّر أن مستويات البطالة في المناطق المهمّشة في البلدان العربية، تصل في غالبية الأحيان إلى أربعة أضعاف ما هي عليه في الجهات التي تستقطب الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي. وبالتالي فإن تنمية قدرات الأفراد في المناطق المحرومة هي أفضل سياسة لتحسين مستوياتهم المعيشية ودعم حظوظهم للتباري على الفرص المتاحة، سواء داخل جهاتهم أو خارجها. ثانياً، تطوير البنيات التحتية المناسبة لتيسير حركية الأفراد والبضائع من الجهات المعوزة نحو الأقطاب الاقتصادية المجاورة لها، فتوافر البنيات التحتية يفتح أسواق أوسع للمناطق الأقل نمواً من دون أن يحرمها من عائدات النمو. فبإمكان الأفراد أن يتنقّلوا بحثاً عن الفرص الاقتصادية في الجهات التي تعرف تمركزاً للنشاط، من دون أن يغادروا جهاتهم في شكل دائم كما يحدث اليوم. ثم إن توافر وسائل النقل بين الجهات يؤدّي في شكل تلقائي إلى إعادة توزيع الناتج الاقتصادي بين مناطق الإنتاج ومناطق الإقامة، وهي سياسة أظهرت نجاعتها في الكثير من الدول المتقدّمة التي ركَّزت على تأمين النقل العمومي بين جهات البلد من أجل دعم حركية أسواق العمل. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن سياسة تعزيز الترابط بين الأقطاب الاقتصادية والمناطق المجاورة لها تساهم أيضاً في فرص استمرارية النمو الاقتصادي المتوازن للأقطاب من طريق التخفيف من الاكتظاظ السكاني بها والحدّ من إمكانيات نشوء أحياء هامشية تكون مرتعاً للبناء العشوائي الذي تنعدم فيه الشروط الدنيا للسكن اللائق. ثالثاً، على رغم الجاذبية على المستوى السياسي لسياسة إعادة نشر النشاطات الاقتصادية من الأقطاب نحو المناطق الفقيرة من طريق توزيع الإعانات والمزايا الضريبية، إلا أنها مكلفة مالياً وغير ناجعة اقتصادياً، إذ هي تحرم المنشآت الإنتاجية من الاستفادة من الوفور الاقتصادية للتمركز. بيد أن تحليل خصوصيات الأقاليم والجهات الأقل تطوّراً من أجل استكشاف تلك التي تنطوي على مزايا نسبية، ومن ثم إعداد البيئة الاستثمارية الجذابة لقطاع الأعمال قصد تفعيل تلك المزايا، يعدّان أمراً ضرورياً. لا شك في أن الربيع العربي كان سبباً في إذكاء النقاش حول ضرورة الانكباب على موضوع الحيز المكاني الأقل تطوّراً داخل البلدان العربية، لما يكتسيه هذا الموضوع من أهمية اقتصادية واجتماعية وأمنية. فقد اتّضح للجميع أن حجم معاناة سكان مناطق سيدي بوزيد والقصرين في تونس، أو درعا والحسكة ودير الزور في سورية، مثلاً، أكبر بكثير مقارنةً بسكان تونس العاصمة أو دمشق أو المدن الساحلية في البلدين، التي يرتادها السياح وتتمركز فيها الاستثمارات وفرص التوظيف. وفي الخلاصة، إن الجزء الأكبر من الاختلالات بين الجهات لا يعود إلى التباين الطبيعي في الإمكانات البشرية والموارد الاقتصادية، بل هو حصيلة للسياسات الحكومية التي تقوم على اعتبارات سياسية وقبلية في تخصيص الموارد العامة من دون مراعاة شروط الكفاءة الاقتصادية، والتنمية المستدامة. ونظراً إلى كون الخلل القائم بين الأقاليم ناتج عن تراكمات طويلة، فإن علاجه لا يمكن أن يخضع للضغوط الشعبية الآنية، بل من الضروري أن يندرج في إطار خطة تنموية طويلة الأمد تقوم في شكل أساسي على مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين. * باحث اقتصادي أول في «مركز كارنيغي للشرق الأوسط» - بيروت