أصيب نمط النمو الاقتصادي السائد غداة الحرب الثانية بأزمة، في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين. والسبب الأول في الأزمة هو قصور الإنتاجية عن الوفاء بتوزيع العوائد والمداخيل توزيعاً مجزياً. فتوترت الخلافات والمنازعات الاجتماعية على التوزيع. وكانت النقابات تضطلع بدور راجح في التوسط بين أصحاب العمل وبين العمال المستخدمين، وفي المفاوضات الجماعية. وتعاظم التضخم وخرج عن السيطرة والضبط في إطار التنظيم النقدي يومذاك. وفي الأثناء، ارتفعت أسعار النفط العالمية. وأعقبت الزيادة تسارع النمو في أوائل السبعينات، والطلب مع النمو. ولم يتأخر التضخم عن الاستفادة من عاملين: الموارد غير المتجددة ونمط الإنتاج. وتولى بول فولكر، رئيس صندوق الاحتياط الفيديرالي الأميركي، معالجة التضخم من طريق سياسة كانت الأيديولوجية النقدية من ثمراتها طوال السبعينات. وبلورت سياسة فولكر فكرة الاستباقات العقلانية، وسلطت نقداً حاداً للدولة الكينزية. والإجراء المركزي في معالجة فولكر مسألة التضخم هو زيادة الفائدة ضعفين، في تشرين الأول (أوكتوبر) 1979، مرة واحدة ومن غير تمهيد، وأدى رفع الفائدة على هذا النحو الى تغيير عميق في إدارة الشركات نجم عن اضطرار هذه الى مواجهة تعاظم سعر رأس المال ومشكلة هذا التعاظم. وشدّ الإجراء على الدول باب التعويل على ضمور قيمة ديونها تحت وطأة خسارة المبالغ الإسمية جزءاً من قيمتها. فاضطرت الى الاستدانة من الأسواق الإلزامية. وتوسعت الأسواق هذه غداة 1980، ولجأت اليها الدول النامية وسددت فاتوراتها النفطية بواسطتها. وترتبت الليبرالية المالية مباشرة على الإجراءات المتسلسلة هذه. وعوض مداراة التضخم، حُملت الأطراف الاقتصادية المتفرقة على الاحتماء من تذبذب الفوائد وجموحها. وترك شطر كبير من الأسر الاقتصار على استثمار مدخراته في حسابات مصرفية. ونشأت شركات الاستثمار وهيئاته عن الأطوار والحاجات المالية المستمدة. وطرأ انعطاف حاد على تدبير الشركات، وتنظيم علاقاتها الداخلية، أصاب علاقة الأجر. وذلك مع استيلاء القطب المالي على إدارة الشركات، وحلوله محل التدبير القائم على المساومة الاجتماعية، واقتسام ثمرة تعاظم الإنتاجية بواسطة مفاوضة جماعية. وحلّت رأسمالية القيمة السهمية محل الرأسمالية الإدارية أو رأسمالية التدبير التي سادت طوال 3 عقود غداة الحرب الثانية. وبينما كانت الرأسمالية الإدارية ترعى إنتاج القيمة من طريق مراكمة تدفق القيمة المضافة، واحتساب الشركة الوقت المديد والمتصل، واقتسام الثمرات والمفاوضة على الاقتسام، تعمد الشركات في إطار الطور الجديد الى تعظيم القيمة السوقية للسهم في مبادلات البورصة. وحل محل التراكم على الأمد البعيد في إطار المساومة والمفاوضة الاجتماعيتين نموذج «وول ستريت». وتحسب العقيدة المحدثة أن الأسواق المالية المحررة (الليبرالية الجديدة) تتمتع بفاعلية وأثر مجزيين. وعلى هذا، فتعظيم قيمة السهم يتضمن المصالح الأخرى كلها، وتتعهد القيمة هذه وترعاها في سعر السوق المستقر. والحق أن المنطق الليبرالي نفسه كان ينطوي على مثال آخر، أو وجهة تطور مختلفة. فالمساهمون كان يجوز أن يكونوا مستثمرين على أمد طويل، يسعون في تعزيز عائدهم المباشر في ضوء التزامات اجتماعية تحتسب في سعر الكلفة. وفي هذه الحال، كان التوازن المالي في متناول الشركات ومطالها، مع نسبة ربح ثابتة وتقليص معتدل لحصة الأجور. وعلى خلاف الوجهة المحتملة هذه، غلب تأويل القيمة السهمية نقل اليها ميزان قوة برز داخل القطب المالي. فالقطب المالي استحوذ عليه وسطاء الأسواق، أي مصارف الأعمال ثم جماعات مالية جديدة مثل صناديق التحوط. وهذه الجماعات قبلة سعيها تعظيم قيمة حيازاتها وأموالها وودائعها، وجني عوائد مرتفعة في وقت قصير. ومنذ أوائل التسعينات المنصرمة، حملت مصارف الأعمال الأسواق على طلب متوسط عائد يبلغ 15 في المئة أو 20 - 25 في المئة. ويفترض هذا كياناً مختلفاً للشركة المنتجة. فهي مجموعة أصول على وشك التصفية في أي وقت من الأوقات أو غب الطلب. وعليه تدفقت أمواج الدمج والاستحواذ، أو نمو الحجم الخارجي، منذ منتصف الثمانينات، وأدت بدورها الى الاستدانة الهائلة. وانحرفت الاستدانة على ثلاثة أوجه: الأول هو إلزام الشركات بلوغ مستويات جدوى مالية لا تتفق مع مردود رأس المال الذاتي والتلقائي. ويدعو هذا الى تخفيض حجم رأس المال. والطريق الأيسر هو شراء الأسهم بواسطة الدَّيْن. والوجه الثاني هو تقليل الأجور وتقليصها. وشفع بهذا رفع الحواجز بين أجزاء سوق العمل العالمية. ففُكت أرباح الإنتاجية من مستوى الأجور، وحلت علاقة الأجور (أي زيادتها) بأرباح الإنتاجية. وأدى حل العلاقة بدوره الى ضمور الاستهلاك والدخل من طريق تخفيض الادخار وجراء زيادة الاستدانة على نحو فاق زيادة دخل الأسر منذ أوائل تسعينات القرن الماضي (وتحتسب زيادة دخل الأسر على أساس الثروة العقارية وزيادة أسعار العقارات). والوجه الثالث لانحراف الاستدانة هو تعاظم الدَّين العام. ويترتب هذا على تخفيض الضرائب على رأس المال. فيؤدي إما الى هزال الدولة، فتكف هذه عن إنتاج سلع عامة جراء استحالة تمويلها، وإما الى مراكمة الدَّيْن العام. وبلغ هذا الدين في أوروبا، في 2006، على رغم تباين الدول وأنظمتها السياسية والاجتماعية، 180 - 225 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وفاقم الاستدانة، في الجهة الغربية من العالم، تراكم المدخرات العالمية وتضافرها على الاحتفاظ بسعر استدانة متواضع جداً. وحفز السعر الضئيل التسليف، وجعل مجزياً جداً عدداً من العمليات المالية الطريفة. وهذه أوصلتنا الى الأزمة المعروفة والمشهودة. وشهدت سنة 1998 ولادة أسواق التسليف المشتقة والمبتكرات هذه شديدة الانفجار، على قول بعضهم، أو القوة، والتسليفات التي كان على المصارف الاحتفاظ بها في موازنتها، جاز أو أمكن مذ ذاك إخراجها ونقلها الى أبواب ديون متفرقة. ومع الجواز هذا، عمت مالية السوق دوائر الاقتصاد كلها. وتولت الأسواق المشتقة تأطير نظام التسليف كله. وتعاظمت سلطة المصارف الاستثمارية على الأنشطة المالية الأخرى، غداة إنذار فقاعة الإنترنت الأولى، في 1999 - 2000، ونشأ جهاز تسليف يتيح نقل الدين من عاتق متعامل مالي الى عاتق متعامل آخر، الى حين انهيار 2007 - 2008. وتراكم الدين على أمد طويل جداً راكم الاختلالات المالية. وعليه، علينا أن نتوقع مرحلة عصر دين القطاع الخاص وقتاً طويلاً وثقيلاً، ولكنه وقت لا غنى عنه. ويعلن المستطلعون، منذ اليوم، مجيء انكماش قد يدوم بعض الوقت. ولا يجوز توقع النمو من حوافز الموازنة. ويرجح أن يرتفع سعر الادخار عموماً، وعلى وجه الخصوص في البلدان التي هبط فيها اقترب من الصفر، ولا ريب في أن شطراً راجحاً من إجراءات الدول في خدمة تحفيز نشاط فاتر أو هزيل يتوقع أن تلتهمه بئر الادخار الخاص. ويجب ألا يحمل هذا الدول على قبض تحفزيها في وقت مبكر والتسبب في انهيار النشاط الاقتصادي، على ما حصل في اليابان (1998) والولايات المتحدة (1936). وتوقيت استئناف النشاط والنمو يتعلق بتعريف النمو المستأنف. فإذا قصد به نمو متواضع، فالأرجح ألا يتأخر عن 2010، بعد الصحو الذي شهده العالم في النصف الثاني من 2009، جراء خطط التحفيز المالي. والولايات المتحدة استأنفت نمواً متواضعاً في الفصل الثالث من 2009، وينبغي أن تحذو أوروبا حذوه في الفصل الأول من 2010. واستعادة ذروة ما قبل الأزمة قد تتأخر الى 2011، وربما الى 2012. وأما عودة البطالة الى مستواها «الطبيعي» فقط تنتظر 2013 - 2014. وينبغي ألا يتوقع نمط نمو على المثال السابق. فالأسر تقلص دَيْنها واقتراضها. وفي ضوء ثمن الانهيار الاجتماعي للنظام المالي، لن يقيد تحفظ الشركات المالية الحكومات عن سن تشريعات تنظيمية ترفع سعر التسليف وتقلصه. ولا يبعد حصول انفكاك المناطق الاقتصادية بعضها من بعض، واستقلالها الواحدة عن الأخرى. والدول الناشئة الكبيرة التي تتمتع بعدد سكان كبير، وأرست أركان طبقة وسطى متماسكة ومتينة، وفي وسع دولها تعبئة الموارد واستثمارها في مرافق عامة، في مستطاع هذه الدول استئناف النمو. وترتب هذه الحال، إذا صح التوقع، مراتب القوة بين الدول على مثال مختلف. ويلاحظ أن الصين تمول نموها من طريق مدخريها في الداخل، من طريق احتياط موازنتها التي انتقلت من الفائض الى عجز بلغ 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وينتظر خروج رساميل صينية تتولى تمويل شركاتها العالمية. والى هذا، وغيره مثله، يعود حلول مجموعة ال 20 محل مجموعة الدول السبع. * أستاذ في جامعة غرب باريس ومستشار أعمال اقتصادي، عن «إسبري» الفرنسية، 11/2009، إعداد و. ش.