اعتاد علماء الاقتصاد قياس رفاه البلدان اعتماداً على الدخل الفردي الحقيقي. فكلما ازداد دخل الفرد، أمكنه الحصول على كمية أكبر من السلع والخدمات، وبالتالي حقق مستوى معيشة أفضل. ولا خلاف على أن ثمة عوامل أخرى مهمة تدخل في قياس مستوى رفاه الإنسان من قبيل توافر الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة. ولعل هذا ما دفع برنامج الأممالمتحدة الإنمائي قبل عقدين إلى صياغة مؤشر التنمية البشرية، بدمج البعدين التعليمي والصحي، إلى جانب الدخل، في قياس رفاه الإنسان. ومع أن هذا المؤشر، وبالنظر إلى البيانات الإحصائية المتاحة والقابلة للمقارنة دولياً، يقدم صورة أدق لمستوى الرفاه، إلا أنه لا يخلو من عيوب أهمها إغفال مستوى التفاوت بين سكان البلد الواحد. خلص الكثير من الدراسات الى أن رفاهية الناس تتأثر إلى حدّ كبير بمدى ثرائهم أو فقرهم مقارنة بالآخرين. ومن أجل تدارك هذا الواقع، عمد برنامج الأممالمتحدة الإنمائي في آخر تقاريره السنوية إلى تصحيح مؤشره بدمج مدى عدالة توزيع الدخل في ترتيب البلدان ضمن سلّم التنمية البشرية. وقد أسفر هذا التصحيح عن تراجع مؤشر الدول العربية بنسبة 27 في المئة نظراً إلى سوء توزيع الدخل في هذه البلدان مقارنة بالمتوسط العالمي. والواقع أن الاهتمام بطبيعة العلاقة بين النمو الاقتصادي ومستوى توزيع الدخل، تزايد في الأوساط الأكاديمية، وبين صانعي السياسات، خلال الفترة الأخيرة. فقد كان جل الاقتصاديين يعتقد أن هذه العلاقة عكسية، ما يعني أن اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء ملازم للزيادة في معدلات النمو، وأن البحث الحثيث عن تحقيق توزيع متكافئ للدخل يضرّ بالنمو الاقتصادي. وثمة حجج ثلاث تُقدَّم عادة لتبرير هذا الاعتقاد. أولاً، إن الفئات الغنية تميل إلى ادخار جزء كبير من دخلها مقارنة بالفئات الفقيرة. ويساعد تراكم هذا الادخار في تمويل مشاريع استثمارية منتجة تؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي الذي يستفيد منه المجتمع برمته، وصولاً الى الفئات الفقيرة. ثانياً، إن اللجوء إلى سياسات توزيعية إرادية من طرف الحكومات يمكن أن يؤدي إلى تقليص الحوافز على النشاط الاقتصادي والاستثمار، ما قد يضرّ بالنمو ويزيد معدلات الفقر. ثالثاً، إن كلفة تنفيذ السياسات التوزيعية وإدارتها مرتفعة جداً، ما يحدّ من فعاليتها. بيد أن آخر الدراسات يشير إلى عدم صواب هذه المقاربة، وإلى أن على المدى الطويل، ليس ثمة علاقة تناقضية بين النمو الاقتصادي والعدالة التوزيعية. بل على العكس، اذ إن عدالة التوزيع لمكاسب النمو عامل أساس في دعم هذا الأخير. فقد تبيَّن أن ما يميز الدول الصاعدة التي تنجح في تحقيق مستويات نمو مرتفعة خلال سنوات متتالية بل عقود، عن الدول الأخرى التي تعجز عن ذلك، يكمن في مستوى توزيع الدخل. فكلما ارتفع سوء توزيع الدخل انخفضت حظوظ النمو الاقتصادي المستدام. وثمة عوامل عدة تبرر هذه العلاقة التناسبية بين النمو الاقتصادي المستقر وعدالة التوزيع: أولاً، تميل الفئات الغنية في الكثير من الدول النامية، كما هي الحال في الدول العربية، إلى الاستهلاك المفرط للسلع والخدمات الباهظة الثمن والمستوردة في غالب الأحيان من الخارج. وبالتالي، يتسرّب الادخار الوطني إلى الخارج بدل أن يحرّك عجلة الاقتصاد المحلي في شكل استثمار منتج يخلق الوظائف ويساهم في تحسين مستوى الرفاه. في حين أن استهلاك الشرائح المتوسطة والفقيرة عادة ما يتركّز على استهلاك السلع والخدمات المحلية، ما يساهم في دعم النمو الاقتصادي. ثانياً، عادة ما يؤدّي الاختلال الكبير في توزيع الدخل إلى احتجاجات اجتماعية وعدم استقرار أمني، ما يؤثر سلباً في الاستثمار والنمو الاقتصادي. ولا شك في أن سوء توزيع الدخل في الدول العربية قد لعب دوراً أساساً في عدم استقرار النمو، وفي إذكاء موجات الغضب الشعبي وإشعال فتيل الثورات العربية. ويشير أحدث التقديرات إلى أن تحسين توزيع الدخل بنسبة 10 في المئة، يطيل فترة استقرار النمو بنسبة 50 في المئة. كما أن مساهمة عدالة توزيع الدخل في دعم نمو اقتصادي مرتفع ومستدام أهم كثيراً من مساهمة الاستثمار الأجنبي أو الانفتاح التجاري، الذي عادة ما تركّز عليه الدول العربية في سياساتها الاقتصادية. وإذا كانت عدالة التوزيع عاملاً مهماً في سبيل تحقيق نمو اقتصادي مرتفع ومستقر، فما هي السياسات التي تحقّق عدالة التوزيع؟ بعض السياسات يمكن أن تنجم عنه آثار جانبية تشوِّه الحوافز وتلحق الضرر بالنمو الاقتصادي. ومن خلال استقصاء التجارب الدولية خلال العقدين الأخيرين، يتّضح أن سياسات تكافؤ الفرص، لا سيما عبر تحسين ولوج الفئات المعوزة إلى التعليم، والإنفاق الاجتماعي المستهدف، هي من بين السياسات التي ثبتت نجاعتها. ولا غرابة في أن تنصبّ جهود صانعي السياسات في دول أميركا اللاتينية، المعروفة بالتباين الكبير في توزيع الدخل بين الفئات الغنية والمعوزة، على هذه السياسات ذاتها. إن النمو السريع والمستقر الذي تعرفه الدول الصاعدة الناجحة يشكِّل فرصة للدول العربية لتستفيد من تجاربها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي على حدّ سواء. وأحد الدروس المهمة التي يمكن استخلاصها هو أن التناقض بين النمو الاقتصادي والإنصاف في توزيع ثمار النمو، لا يعدو كونه ظاهرياً ومنحسراً على المدى القصير. أما على المدى الطويل، فليس ثمة تناقض ولا تضارب بين الهدفين. خلاصة ما سبق هي أن وضع سياسات اجتماعية توفّر الحماية الاجتماعية وتضمن ولوج الفئات المعوزة إلى الخدمات التعليمية والصحية، ناهيك عما تنطوي عليه من قيمة أخلاقية وإنسانية، يساهم مباشرة في دعم عملية النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والأمني. * باحث اقتصادي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط - بيروت