ظهر يوم 15 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تجمع عشرات المستوطنين اليهود في حي الشيخ جراح الفلسطيني في الجزء الشرقي من القدسالمحتلة، بدعوة من جمعية استيطانية تعمل على الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في القدس. وما إن شرع زعيم المستوطنين في إلقاء كلمته، تحت الحراسة المشددة لقوات الاحتلال التي أغلقت الشوارع المحيطة بمكان التجمع، حتى ارتفع قرع الطبول وظهر حشد غفير من أهالي الحي وعشرات الشبان والشابات الذين راحوا يؤدون حركات رياضية قتالية ترافقهم الموسيقى وأصوات الغناء. هؤلاء شباب وأطفال «الكابويرا» الآتين من حي بيت حنينا القريب. لم تتمكن قوات الاحتلال من اعتراض طريق الحشد، ووقفت مذهولة تحاول فهم ما يجري ومعرفة من هم هؤلاء الذين أخذوا يقتربون شيئاً فشيئاً من مركز تجمع المستوطنين. لم يستطع زعيم المجموعة الاستيطانية السيطرة على أتباعه الذين التفتوا لمشاهدة الحدث الغريب تاركين زعيمهم خلفهم من دون مستمعين. وكلما اقترب الحشد، ازداد ارتباك قوات الأمن الإسرائيلية وخفض المستوطنون لافتاتهم وأعلامهم، بينما علت أصوات الحشد وارتفعت أعلام فلسطين في الجهة المقابلة، ما أدى إلى فوضى عارمة أرجئ بسببها خطاب زعيم المجموعة الاستيطانية وانتقل إلى داخل البؤرة الاستيطانية المعروفة باسم «قبر شمعون». «الكابويرا» شكل من أشكال الفن القتالي البرازيلي ذي الجذور الإفريقية، يجمع بين فنون الدفاع عن النفس والرقص على خلفية موسيقية تزخر بالإيقاع القوي إنما غير السريع بالضرورة. وطوّر هذا الفن القتالي في البرازيل على أيدي المُستعبدين الأفارقة في القرن السابع عشر، من طريق مزج أنماط عديدة من القتال الموروثة عن قبائلهم الإفريقية. في ذلك اليوم كانت رسالة «الكابويرا» الفلسطينية هي أن الشعب الفلسطيني، وهو يقاوم الاحتلال ويدافع عن حقوقه الوطنية والانسانية في القدس، يبقى منفتحاً على العالم وعلى الثقافات الأخرى، يدرجها في قضيته، بل ويعبّر عن قضيته بالفن الذي يتضمن القتال لأن الثقافة جزء أساسي من معركة التحرر. ويقول فلسطينية «الكابويرا» إن الشعب الفلسطيني محب للحياة، ويسعى إليها على رغم محاولات الاحتلال سلبنا إياها، كما أن أساليب المقاومة الجماهيرية اللاعنفية لا حدود لها، وهي تعطي النتائج المرجوة في الحالات المناسبة ووفق التحضيرات الملائمة. ويقول حازم غرابلي، رئيس نادي بيت حنينا المقدسي الذي ينتمي إليه فريق «الكابويرا» الفلسطيني، إن «الفريق لبى دعوة من حركة فتح للمشاركة في عرض لدعم صمود أهلنا في الشيخ جراح»، واصفاً ما حدث بأنه يعكس إصرار الفلسطينيين على حقهم في البقاء في القدس. وفريق «الكابويرا» الفلسطيني جاء نتيجة مشروع «بدنا كابويرا» الذي يهدف إلى مساعدة الأطفال على التغلب على الصدمات النفسية من طريق تعلم فن القتال الإفريقي - البرازيلي القديم وتحولاته الراقصة. وهذا ما يؤكده ايزيك هاينريك، مدير المشروع في مؤسسة «بدنا كابويرا» البريطانية غير الحكومية، بقوله إن «الأراضي الفلسطينية تضم فرصاً قليلة جداً للأطفال للانخراط في نشاطات بنّاءة وايجابية، خصوصاً في مخيمات اللاجئين، وبدأ المشروع هنا في آذار (مارس) الماضي، من أجل مساعدة الأطفال على التغلب على الصدمات النفسية». ففن الكابويرا ينفّس الطاقة السلبية، ويبني الثقة بالنفس، ويحمل معاني ثقافية، لا سيما العنفوان ورفض الخنوع، وفي الوقت نفسه التشديد على سلمية السلوك، وهذا ما ينعكس إيجاباً على الأطفال المتأثرين بالصراع المسلح. يضيف هاينريك: «هناك حاجة ماسة إلى إيجاد قدوة ما للشباب والكبار أيضاً، في شعفاط وبيت حنينا ومخيم الفوار قرب الخليل، وغيرها من المناطق الفلسطينية، وجزء كبير من عملنا هو تعزيز قدرات الشباب وتطوير مهاراتهم القيادية». ويشارك الآن في المشروع حوالى 500 طفل وشاب فلسطيني من أنحاء الضفة الغربية، وهناك خطط لمزيد من التوسع، خصوصاً بعد توقيع اتفاق يقتضي قيام وكالة الأممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وغيرها من الشركاء، بتمويل هذا المشروع. قتال ورقص ونشأ «الكابويرا»، فن الدفاع عن النفس، في القرن السادس عشر، عندما بدأ المستعبدون الأفارقة يخلطون تقنيات مختلفة من القتال مع الرقص والغناء والموسيقى. وتتميز اللعبة، التي تُمارس في شكل دائرة بالركلات والألعاب البهلوانية. يقول هاينريك: «لقد رأينا كيف تسعد الكابويرا الأطفال في فلسطين لما فيها من متعة يستشعرها كل إنسان، فهي تقوم على الحركة والموسيقى والرقص والألعاب البهلوانية والحركات القتالية. وقبل كل شيء، هناك إحساس قوي بروح الجماعة، كما أنها توفر متنفساً للأطفال الذين يعانون الإجهاد البدني والنفسي». وهذا ما يشدد عليه أيضاً بشار من مخيم الفوار للاجئين قرب مدينة الخليل: «نحن كالأخوة، تعلمت القوة من الكابويرا، تحسن أدائي في المدرسة كما أصبحت أكثر قدرة على الحفاظ على هدوئي في الصف، وذلك لأني أواظب على ممارسة الكابويرا في البيت، وأحياناً على سطح منزلي». ويفيد بعض الروايات بأن هذه التدريبات تطورت ونمت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندما تعرض الأفارقة لعملية تهجير وأنّوا تحت سياط العبودية. ويبدو أنه صدر في تلك الفترة قرار يمنع العبيد من الاقتتال في ما بينهم. ولتجاوز تلك القوانين راح الأفارقة هؤلاء يغلفون ضرباتهم، خلال الشجار، بحركات إيقاعية توحي للأسياد بأنهم يقومون بحركات راقصة. واستمر الحظر على تلك الحركات الراقصة حتى العام 1934، بسبب ارتباطها بالطبقات الدنيا من السلّم الاجتماعي البرازيلي، إلا أن رقصة الكابويرا ما لبثت أن ارتقت وأصبحت من الرياضات الوطنية البرازيلية، وباتت مكانتها مرموقة. ويبقى ل «الكابويرا»، بنسختها الفلسطينية، مذاق خاص بالتأكيد.