عندما دعا وزراء الخارجية العرب خلال شهر آذار (مارس) الماضي الى فرض حظر جوي فوق الاراضي الليبية، رحبت اوساط دولية وعربية متنوعة بهذه الدعوة. وتكرر هذا الترحيب عندما اطلقت جامعة الدول العربية مبادرتها بصدد الازمة السورية. ولقد تباينت بواعث الترحيب تبايناً كبيراً. فالبعض من دول الحلف الاطلسي رحب بهذه الدعوة لأنها تفتح الطريق امام تعزيز نفوذها ومصالحها النفطية والاستراتيجية في المنطقة. ورحبت اوساط اخرى، بخاصة المعارضة المحلية في البلدين، بأمل الخلاص من نظام القذافي في ليبيا ونظام الحزب الواحد في سورية واستبدالهما بنظام التعددية السياسية والنهج التضميني. ورحب فريق ثالث من المعنيين بانتشار الديموقراطية في المنطقة العربية والتعاون الاقليمي بين دولها على اساس انه سيخطو بالجامعة العربية الى الامام ويعجل في تحويلها الى مرجعية فكرية وسياسية واقتصادية تلعب دوراً مهماً في قيادة عمليتي الدمقرطة والأقلمة في المنطقة. لقد نشأت الجامعة كما تبلورت معالمها في ميثاقها، كحام اقليمي للوضع العربي الراهن. وتضمن الميثاق مبادئ تمتد اصولها الى نظام وستفاليا الذي توصلت اليه الكيانات الاوروبية المتصارعة خلال القرن السابع عشر. وأكد نظام وستفاليا السيادة المطلقة لكل كيان على اراضيه وحرّم التدخل في شؤونها الداخلية من قبل الكيانات الاخرى. وأكدت المادة الثامنة من ميثاق جامعة الدول العربية هذا المبدأ اذ جاء فيها ان على كل دولة من الدول الاعضاء في الجامعة ان تحترم نظام الحكم القائم في دول الجامعة الاخرى وان تعتبره حقاً من حقوق تلك الدول وان تتعهد بألا تقوم بعمل يرمي الى تغيير ذلك النظام فيها. خلافاً لهذه المادة اعتُبرت دعوة الجامعة الى فرض حظر جوي على ليبيا، نقضاً لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية. واعتبر البعض مبادرة الجامعة بصدد الازمة السورية بما رافقها من تلويح بتجميد عضوية سورية في الجامعة اذا امتنعت القيادة السورية عن التجاوب مع المبادرة بمثابة نقض جديد للمادة الثامنة من ميثاق الجامعة. ومع تكرار موقف الجامعة هذا خلال اشهر قليلة، تزايدت الآمال بصدد انتقال هذه المنظمة الاقليمية من منظمة «ما بين الحكومات»، كما توصف عادة المنظمات الاقليمية الضعيفة، الى منظمة «ما فوق الحكومات» كما توصف عادة المنظمات الاقليمية القوية كما هو الامر مع الاتحاد الاوروبي، او على الاقل منظمة مستقلة عن الدول وتملك اجندة خاصة بها لنشر الديموقراطية والتعاون الاقليمي في المنطقة، كما هي حال رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان). فهل ان هذه الآمال في محلها؟ هل نشهد ولادة نظام اقليمي عربي جديد على انقاض المعارك الحامية التي تنتشر في المنطقة؟ تمر المنطقة العربية بمخاض قوي مما يحد من امكان التنبؤ بالتطورات المقبلة، ولكن مع ذلك يمكن القول، استناداً الى قراءة الواقع العربي والى تجارب المنظمات الاقليمية الاخرى، بأن من الممكن ان تطرأ على النظام الاقليمي العربي تحولات مهمة تدفع به الى الامام، اذا توافرت شروط ملائمة لمثل هذا التغيير ومن بينها شرطان مهمان: الشرط الاول، الاهتمام باضفاء المشروعية على مبادرات الجامعة العربية وعلى التحولات التي تمر بها وذلك اسوة بالتجارب التي مرت بها المنظمات الاخرى. فمنظمة الدول الاميركية ظلت منذ نشأتها في الاربعينات تلتزم التزاماً دقيقاً بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاعضاء. واستمرت المنظمة على هذه الحال الى مطلع التسعينات حينما وقعت الدول الاعضاء على ميثاق الديموقراطية. وبينما كانت المنظمة تركز في الماضي على اهداف التنمية والاستقرار والسلام، فان الميثاق اعتبر ان قيام النظم الديموقراطية النيابية هو شرط رئيسي لتحقيق هذه الاهداف. وتحولت منظمة الدول الاميركية تدريجاً من منظمة «ما بين الدول» الى منظمة «ما فوق الدول»، فباتت قادرة على محاسبة الحكومات والقيادات الاميركية على مخالفتها لشرعة حقوق الانسان. وتسير «آسيان» على هذا الطريق اذ انها نشأت كمنظمة نخبوية توفر اطاراً لتعاون الحكّام وتنأى بوضوح عن التدخل في شؤون المجتمعات. اما خلال السنوات الاخيرة فقد اتجهت «آسيان» الى المأسسة عبر تطوير المبادئ التي تقوم عليها والهياكل التي تعمل من خلالها بحيث اصبحت لها امانة عامة معتمدة وقواعد عمل تحتكم اليها. الجامعة العربية قد تكون، من حيث الشكل، متقدمة على العديد من غيرها من المنظمات الاقليمية، اما من حيث الواقع فانها لا تزال في حاجة الى اهتمام كبير بمسألة المشروعية حتى تحتل مكانها بجد كمرجعية فكرية ومعنوية وسياسية واقتصادية في الفضاء العربي. هذا الضعف نلحظه في التفسير الضمني الذي قدمته الجامعة للتناقض بين أحكام ميثاق الجامعة، من جهة، والموقف من تدخل «الناتو» في ليبيا، من جهة ثانية. في معرض تفسيره لهذه المسألة، صرح عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، بأن الدعوة الى فرض الحظر الجوي على ليبيا جاءت لأن نظام القذافي ارتكب - وهذا لا يقبل الجدال - من الجرائم والانتهاكات الكبيرة ما جعله يفقد شرعيته. ولكن هذا التوضيح يبقى ناقصاً اذا لم يرتكز موقف الامانة العامة الى مواد ميثاقية تحدد الفارق بين الجرائم العادية والمألوفة في انظمة الاستبداد والتي لا تنقض شرعية الانظمة، وبين «الجرائم والانتهاكات الكبرى» التي ترتكبها الانظمة المطلقة بحيث تفقد شرعيتها وحصانتها فتبيح التدخل الخارجي بقصد وقف هذه الجرائم المفرطة او الاطاحة بهذه الانظمة اذا لم تكف عن التوغل فيها. فضلا عن ذلك فان التوضيح الذي ادلى به الامين العام السابق للجامعة يبقى ناقصاً اذا لم يتم تحديد الجهة المخولة التمييز بين النمطين: العادي من الجرائم والانتهاكات، وغير العادي منها. لا ريب ان الجامعة تستطيع ان تستخرج من السابقة الليبية مبادئ عامة تسمح لها بالتدخل لحماية المواطنين في البلاد العربية اذا افرطت الحكومات في قمعهم، ولكن هذا يحتاج الى بلورة قواعد ومبادئ يصح تطبيقها على كافة دول المنطقة وفي شتى الازمنة والمناسبات. الشرط الثاني الذي ينبغي توافره حتى تنتقل الجامعة العربية من وضعها الراهن الى دور المنظمة الفاعلة في حماية المواطنين العرب هو صعود القوى الديموقراطية العربية وتعزيز مواقعها ونفوذها في اروقة السلطة ومواقع التأثير والحكم. هذا التحول في اوضاع المنظمات الاقليمية في العالم مهد له تطور مهم بين الدول الاعضاء. فقبل ان تخطو «آسيان» خطوات كبيرة على طريق التحول الى فاعل ديموقراطي في منطقة جنوب شرق آسيا، طرأت تغيرات مهمة على اكبر دولها اندونيسيا. فعندما كانت تخضع اندونيسيا لحكم سوهارتو، كانت تتستر بما كان يعرف ب «القيم الآسيوية» او «الطريق الآسيوي» وتعتبر ان هذه القيم تركز على حقوق الشعوب وحدها من دون حقوق الافراد. وكان المقصود بحقوق الشعوب هو مصالح النخب الحاكمة فحسب. ولكن بعد ذهاب سوهارتو انتقلت اندونيسيا من الحكم المطلق الى الحكم الديموقراطي، ولحق ذلك تحرير «آسيان» من القيود التي كانت تحول دون اهتمامها بقضايا حقوق الانسان والديموقراطية. هذا الامر تكرر في منظمة دول اميركا اللاتينية فبعد سقوط الانظمة العسكرية وبخاصة في تشيلي والارجنتين والبرازيل توطد دور هذه المنظمة كقاطرة للتحول الديموقراطي في المنطقة. ان الجامعة العربية لا تزال حتى الآن تعمل كحامية للوضع الراهن. والوضع الراهن سيبقى خاضعاً لنفوذ دول تناهض بكل قوة التدخل في شؤونها الداخلية، وهي اذا تدخلت في شؤون غيرها فذلك ليس من باب تكريس هذا المبدأ كقاعدة عامة في السياسة العربية وانما تمارس هذا التدخل بغرض اضعاف المناوئين فحسب واخلاء الساحات العربية منهم. ان هذا الوضع قد يتغير اذا صعدت القوى الديموقراطية العربية في دول مثل مصر وتونس والمغرب ولبنان، حيث تتوافر ظروف مناسبة لمثل هذا التحول وحيث يمكن ان يفضي هذا التغيير الى ولادة ديموقراطية واقليمية جديدة للجامعة العربية. لقد تكرس هذا الخروج على الميثاق عندما ارتكز الحلف الاطلسي الى قرار جامعة الدول العربية للتدخل العسكري في ليبيا، وعندما تم القضاء على النظام السابق ومصرع العقيد القذافي. وفتح هذا الفصل من تاريخ الجامعة المجال امام اسئلة كثيرة لم تجد حتى الآن جواباً حاسماً. فهل يكون الموقف الذي اتخذته الجامعة خروجاً موقتاً على المادة الثامنة؟ واذا كان الامر لا يتعدى الخروج الموقت، فأين هي الاعتبارات التي تتعلل بها جامعة الدول العربية لتبرير الخروج الاستثنائي عن مبدأ «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للانظمة العربية» واحترام «السيادة الوطنية» لهذه الانظمة؟ * كاتب لبناني