أثارت القرارات التي اتخذتها جامعة الدول العربية ردود فعل متضاربة لدى الأوساط الرسمية والأهلية التي تتابع التطورات الساخنة التي تمر بها المنطقة العربية. من هذه القرارات قرار حظر الطيران فوق ليبيا وإرسال مراقبين إلى سورية وإعلان الخطة العربية لحل الأزمة السورية والمقترحات التي صدرت عن زعماء عرب لكي تعرض على الجامعة، مثل اقتراح إرسال قوات عربية. وجاءت ردود الفعل هذه معبرة إلى حد بعيد عن مواقف هذه الأوساط تجاه الصراع الدائر في المنطقة بخاصة في ليبيا وسورية. فالذين وقفوا مع التغيير في البلدين أيدوا ذلك النوع من القرارات والمقترحات، بينما وقف مؤيدو الحفاظ على الأوضاع في البلدين موقفاً متحفظاً تجاه هذه القرارات. في حمأة هذه الصراعات، وفي ضوء التطور السريع للأحداث وما رافقها في ليبيا وسورية من عنف وضراوة، بدا من الصعب أن ينظر المرء إلى قرارات الجامعة والمقترحات التي أطلقت على هامش مساعي «تعريب» أزمتي ليبيا وسورية، خارج الظرف الراهن. ولكن على رغم مسوغات هذا الموقف، فانه نظراً لأهمية الأحداث التي نمر بها وللأهمية الاستثنائية التي اكتسبتها جامعة الدول العربية خلال هذه المرحلة، وحيث أن هذه القرارات والمقترحات سوف تترك آثاراً بعيدة المدى على المنطقة العربية، فانه من المفيد بل من الضروري إجراء مراجعة أولية لها من دون أن يمنع ذلك - بالطبع - من إجراء مراجعة وتقييم شامل وعميق لها عندما يبلغ التغيير مداه في المنطقة العربية. من الواضح والبديهي ان قرارات الجامعة والمقترحات العربية التي أطلقت قبل تدويل الأزمتين، اتخذت طابع الاستعجال والابتسار. فالدعوة إلى إرسال قوات عربية إلى سورية التي أطلقها أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، اقتصرت على عنوان عريض لمثل هذه الخطوة، ولم تقدم في مشروع مفصل إلى الجامعة. أما القرار بإرسال المراقبين إلى سورية فقد اتسم بدرجة أعلى من الوضوح، وكذلك الخطة العربية لمعالجة الأزمة السورية. ولكن في كافة الحالات، وعلى رغم ما جاء في هذه التقارير والمقترحات والخطط من ابتسار، فان بعض ما جاء فيها يصلح مدخلاً للنهوض بالأوضاع العربية عموماً إذا تم تثبيت المبادئ التي تضمنتها، وإذا ما جرت متابعة هذا الجهد في المجالات التالية: أولاً، الغاية من التدخل: ولقد جاء في البروتوكول أنه لحماية المدنيين، وما غمض في نص البروتوكول جرى توضيحه في الخطة، إذ تنطلق من أنه لا حماية للمدنيين إذا انزلقت سورية إلى حرب أهلية. وللحيلولة دون وقوع هذه الحرب وتهديد سلامة سورية والسوريين دعت الخطة إلى إقامة حكومة وحدة وطنية تنبثق من برلمان يجري انتخابه في أجواء حرة ونزيهة وقيام نظام سياسي ديموقراطي تعددي. ومن الأرجح أن المقصود بذلك هو التعددية الحزبية. ولعل بالإمكان أن يضيف المرء إلى ذلك، واستكمالاً لمعنى حماية المدنيين والتحول الديموقراطي في سورية، أن يتم في نطاق هذه الخطة ضمان الفصل بين السلطات وحق المجلس النيابي في مساءلة الحكومات ومراقبة أدائها خاصة في مجال التصرف بالمال العام، والحق في المساواة بين الرجل والمرأة كالحق في الانتخاب والترشح لكافة المناصب في البلاد، وكذلك الحق في التعبير عن الرأي والاجتماع وتكوين الأحزاب السياسية. وبديهي أن سورية ستكون أسعد حالاً فيما لو طبقت هذه المبادئ بدقة وأمانة، ولو تم فيها الانتقال من حكم الحزب الواحد إلى نظام التعددية الحزبية، ومن النظام المطلق إلى النظام الديموقراطي. وبديهي أيضاً أن هذه المبادئ والمفاهيم لا تصلح لسورية فقط من دون غيرها، بل هي تصلح لسائر الدول العربية من دون استثناء. أما إذا ارتأى المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية أن سورية وحدها بحاجة إلى الإصلاح الديموقراطي والسياسي، في حين أن الدول العربية الأخرى قد حققت من هذا الإصلاح ما يتماشى مع المعايير الدولية والإنسانية المتعارف عليها، وما يغنيها عن تدخل المنظمات الدولية والإقليمية في شؤونها الداخلية، فان من المستحسن إيضاح هذا الأمر وتفسيره وإقناع غير المقتنعين بصوابه. ثانيا، الإطار التشريعي: إذا اقتنعت الدول الأعضاء في المجالس الوزارية العربية وفي الجامعة بان النظام الديموقراطي، بكل أبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، هو النظام الأمثل الذي ينبغي للدول العربية تطبيقه، وإذا اقتنعت أيضاً بأن من واجب الجامعة ومن واجب أعضائها السعي، بكل جهد وإصرار، من أجل تسريع وتعميق التحولات الديموقراطية في المنطقة العربية، وإذا اقتنعت هذه الدول العربية، أخيراً لا آخراً، بأن على الجامعة أن تأخذ موقفاً تجاه الدولة العضو التي تسرف في مجانبة القيم الديموقراطية وتشتط في انتهاكها لحقوق الإنسان مثل الحق في الحياة، وأن الجامعة في هذه الحالة، لها الحق في الذهاب إلى حد العمل على تغيير النظام في الدولة أو الدول المعنية، فانه لا بد، في ضوء هذا المنحى الخطير والمبارك معاً في السياسة العربية، من أن يجري تعديل ميثاق جامعة الدول العربية وأن تثبت فيه هذه الخيارات والأولويات. ومن الضروري أيضاً أن تحدد هذه التعديلات والنصوص الميثاقية الظروف والكيفية التي يتم بها دفع المتلكئين إلى السير على طريق الدمقرطة إلى إسراع الخطى للوصول إليها، وردع منتهكي القيم الديموقراطية والإنسانية عن المضي في انتهاكاتهم. وإذ تقدم الدول العربية على إدخال هذه التعديلات التاريخية على ميثاق الجامعة، فان من الضروري إحاطة هذه التعديلات بكل النصوص التشريعية التي تمنع الانتقائية في تطبيق سياسة دعم التحول الديموقراطي في المنطقة. فالانتقائية الموجهة ضد دولة واحدة أو ضد دول من دون أخرى هي مقبرة العمل الجماعي والمؤسسات الإقليمية. ثالثا، البناء المؤسسي: أن توسيع نطاق عمل الجامعة العربية بحيث يشمل معاقبة الدول الأعضاء، والتدخل في شؤونها الداخلية وفقاً لمقتضيات «الحق الإنساني» يتطلب بناء وإضافة مؤسسات جديدة إلى الجامعة وفي مقدمها محكمة العدل العربية. إن هذه المحكمة ضرورية للفصل في كل معضلة قانونية ودستورية تطرأ على أعمال الجامعة، بخاصة عندما تتوسع أعمالها. ودور المحكمة هنا أن «تعرب» قرارات الجامعة، أي أن تضعها في إطار قانوني وجمعي، وأن تحد من ضراوة المنازعات بين الدول الأعضاء وأن تحمي حقوق الأقلية في هذه الدول. من المؤسسات الضرورية أيضاً تكوين جهاز من المراقبين الدائمين الذين يصلحون لشتى أنواع المراقبة وفي سائر المجالات والميادين، مثل مراقبة تقيد الحكومات بالاتفاقات سواء الموقت منها، مثل البروتوكول الذي ينظم عمل بعثة المراقبين إلى سورية، أو مراقبة الانتخابات التي تجريها الحكومات العربية. فضلاً عن ذلك، فان من الممكن تنفيذ فكرة تكوين قوات مشتركة عربية على غرار «درع الجزيرة». إن هذه القوات قد لا تتمكن من القيام بدور في الأزمة السورية لأن دمشق لن ترحب بهذه المبادرة. ولكن صعوبة تنفيذ اقتراح إرسال قوات عربية مشتركة إلى سورية لا يعني استحالة تطبيق هذا الاقتراح في مناطق أخرى من المنطقة العربية مثل ليبيا والصومال أو مناطق الاضطراب في السودان، حيث يمكن لهذه القوات أن تساعد على حماية الوحدة الترابية للدول الثلاث في الوقت الذي تعمل على حماية سكان هذه البلاد العربية من أخطار العنف والصراع الدموي. كان جان مونيه، أبو الفكرة الأوروبية الحديثة، يردد أن أحد أسباب نجاح هذه الفكرة ونمو السوق الأوروبية المشتركة هو أن العاملين فيها كانوا يحولون الأزمات والحلول المطبقة لها إلى حجارة يبنون بها تلك التجربة. فالأزمة كانت تأتي معها بالخبرات، وهذه التجارب كانت تنجب القوانين والأعراف والمؤسسات التي تكوّن منها البيت الأوروبي. حري بمن يسعى إلى تفعيل دور الجامعة العربية، لأي غرض كان، أن يتذكر حكمة مونيه هذه. * كاتب لبناني