المواقف التي اتخذتها جامعة الدول العربية تجاه أحداث ليبيا وسورية تبدو استثنائية الطابع. فالجامعة نشأت في الأساس من اجل «توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق خططها السياسية». ما عدا ذلك فقد أخذت الجامعة بمبادئ نظام وستفاليا الذي نشأ في أوروبا في القرن السابع عشر لكي يحرّم اي تدخل خارجي، مهما كانت مبرراته ومسوغاته، في شأن داخلي من شؤون الدول المعنية. تأسيساً على ذلك نص ميثاق الجامعة على ان «تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي الى تغيير ذلك النظام فيها». ودأب الزعماء العرب وسائر المسؤولين وعلى شتى المستويات الحكومية العربية على تأكيد مبدأ «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى»، وعلى ضرورة احترام السيادة الوطنية للدول الأعضاء. فضلاً عن ذلك، ولإحاطة هذه المبادئ بالنصوص الدستورية والميثاقية والإجرائية الضرورية، فقد أكد ميثاق الجامعة ان قرارات الجامعة ذات الطابع السياسي والأساسي تتخذ بالإجماع، أما القرارات التي يمكن اتخاذها بالأكثرية فهي ذات طابع إجرائي ولا تلزم الا من يقبل بها. وهذا بالطبع سمح لأية دولة عضو ان تعطل صدور أي قرار مهم ومصيري وسياسي موجه ضدها، وفرض المزيد من القيود على «التدخل في الشؤون الداخلية» للدول الأعضاء. المواقف التي اتخذتها الجامعة تبدو وكأنها تنأى عن هذه القواعد والمبادئ، وكأنها تضع جامعة الدول العربية على طريق جديد. ومهما كانت الآراء في مضمون قرارات الجامعة وموقفها تجاه أحداث البلدين، أي سواء أصابت أم أخطأت، وسواء اعتبرت ملبية للموجبات الديموقراطية والوطنية في البلدين أم لا، فإن الذين يتطلعون عادة الى تنمية المنظمات الإقليمية والتعاون والتكامل الإقليميين يحبذون التخلي عن مبادئ وستفاليا وإعطاء المنظمات الإقليمية الحق، في ظل ظروف معينة، في اتخاذ المواقف العلنية، وأحياناً التدخل العملي من اجل منع إحدى الدول الأعضاء من تطبيق سياسة تتنافى مع المبادئ التي قامت عليها هذه المنظمات. في السنوات الأخيرة ازدادت هذه الظاهرة انتشاراً ورسوخاً. أي أن عدداً أكبر من المنظمات الدولية والإقليمية بدأ يتجه الى التخلي عن مبادئ وستفاليا. أحياناً تمت هذه التحولات تحت عنوان «التدخل الإنساني»، أي انه إذا اشتدت الأزمات واتخذت منحى كارثياً في بلد عضو في منظمة معينة، كان من حق هذه المنظمة ان تتدخل من اجل وضع حد لمعاناة شعب هذا البلد. هل يمكن إدراج مبادرات جامعة الدول العربية الأخيرة في هذا الإطار؟ هل تشكل مدخلاً مناسباً الى مرحلة جديدة في تطور النظام الإقليمي العربي، فيتحول من فاعل معني بالتنسيق السياسي والتعاون الوظيفي - في اضعف صوره - بين الدول العربية، الى فاعل ديموقراطي قادر على إلزام سائر الدول الأعضاء بالمبادئ الديموقراطية؟ ان التجارب الدولية والإقليمية والواقع العربي لا تشجع على التطلع الى مثل هذه التوقعات المتفائلة، ومنها الآتي: اولاً، من مراجعة العلاقة بين تطور المنظمات الإقليمية، من جهة، وتبنيها مشاريع الدمقرطة، من جهة أخرى، نلاحظ ان هذا التبني لم يأت بصورة مفاجئة. فالسوق الأوروبية نشأت أساساً لأغراض اقتصادية واستراتيجية، ثم لم تلبث ان أخذت تشدد بصورة متزايدة على نشر الدعوة الديموقراطية قارياً وعالمياً. وفي القارة الأميركية، نشأت منظمة الدول الأميركية في الأربعينات بقصد التعاون بين الدول الأعضاء. ولم تصل المنظمة الى تبني الديموقراطية إلا بعد عقود من الزمن فأقرت الميثاق الديموقراطي الأميركي عام 2001. ونشأت رابطة دول جنوب شرقي آسيا (اسيان) خلال الستينات، لكنها لم تعتمد سياسة نشر الديموقراطية بين الدول الأعضاء ودول الجوار الا خلال العقدين الأخيرين. بالمقارنة نجد ان قمة الدول العربية في تونس عام 2004 أطلقت وعداً بالإصلاح السياسي وحتى الديموقراطي. لكن هذا التعهد ما لبث ان توارى عن الأنظار في مقررات القمم العربية اللاحقة. أما بعض المبادرات المتفرقة التي اتخذتها الجامعة في مجال تنمية الديموقراطية مثل إرسال مراقب واحد للإشراف على الانتخابات النيابية في بعض الأطر العربية فقد كانت من الهزال بحيث يصعب استخراج اية دلالة جادة منها. ثانياً، ان إدخال التحول الديموقراطي في صلب الاندماج الإقليمي كان من ثمار ترسخ الديموقراطية في الدول التي شكلت محور ذلك الاندماج، كما هو الأمر في فرنسا والمانيا. بعد ذلك بدأت كرة الثلج الديموقراطية الأوروبية تكبر جنوباً وشرقاً حيث تهاوت النظم المطلقة وحلت محلها أنظمة أوروبية جديدة تطبق الديموقراطية. يمكن سحب هذا المثال أيضاً ولو مع الاستدراكات على البرازيل والأرجنتين، البلدين الأهم في أميركا اللاتينية واللذين شكلا قاطرة سوق أميركا اللاتينية المشتركة - ميركوسور. في البلدان العربية اليوم لا توجد قاطرة للاندماج الإقليمي ولا قاطرة للتحول الديموقراطي ولا قاطرة للاثنين معاً. في غياب مثل هذه القاطرات، من الصعب ان تتحول جامعة الدول العربية الى فاعل ذي شأن في أي من المجالين، وخصوصاً الديموقراطي. ثالثاً، إن الأساس الموضوعي القوي لتعثر مساعي التعاون الإقليمي سواء على مستوى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو على مستوى نشر المبادئ الديموقراطية لا يزال قائماً ولم يتغير. فالدولة الريعية العربية لا تزال تتحكم بمفاصل السياسة العربية، وتمتلك الدول الريعية العربية من المداخيل المادية ما يمكنها - ظاهراً - من الاستغناء عن تنمية التعاون الإقليمي وتوسيع التبادل التجاري بين الدول العربية وتوسيع الأسواق وجذب الاستثمارات ومكافحة الفساد وتعمير البنى التحتية في الداخل وعلى النطاق الإقليمي. كذلك تستطيع الدول الريعية العربية الاعتماد على هذه المداخيل للتفلت - ولو الموقت - من موجبات الإصلاح السياسي ليس في دارها فحسب، وانما في كثير من الأحيان في دور الجوار العربي. هذا العامل سيحد من قدرة الجامعة العربية على الاضطلاع بدور فاعل على صعيدي تنمية التعاون الإقليمي والتحول الديموقراطي في المنطقة. رابعاً، ان الاحتلال الأميركي في العراق والأسلوب الذي انتهجته إدارة جورج بوش في الترويج للديموقراطية وللاندماج الإقليمي، ألحق أضراراً كثيرة بمسألة التحول الديموقراطي في المنطقة. أثارت هذه السياسة الكثير من المخاوف والحذر تجاه الدعوات الديموقراطية، وسمحت للحكومات المعارضة لهذه الدعوة بالعمل على إحباطها بأساليب تتعارض مع المبادئ الإنسانية القويمة. ولقد ارتبطت مساعي نشر الديموقراطية في أوروبا وأميركا اللاتينية التي قام بها الاتحاد الأوروبي وميركوسور بالتقدم الاقتصادي وتحسن الأوضاع الاجتماعية، مثل التخفيف من حدة البطالة وانتشار التعليم والخدمات الاجتماعية، مما ساعد في ترسيخ النظم الديموقراطية والتكتلات الإقليمية معاً. أما حرب بوش وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في العراق فقد أضعفت المشروعين معاً في المنطقة العربية. على رغم كل هذه المعطيات التي تعرقل تحول جامعة الدول العربية الى فاعل مهم ودائم على صعيد التقدم الديموقراطي في المنطقة، فانه من المستطاع تعزيز دور الجامعة في هذا المضمار إذا قامت حكومات ديموقراطية وتنموية حقيقية في دول «الربيع العربي»، خصوصاً في مصر لما لها من أهمية عظمى على النطاق العربي والإقليمي، أما التعويل على الجامعة وعلى أمانتها العامة للاضطلاع بما هو أشبه بالمعجزات فهو ضرب من ضروب التعجيز الذي لا يخدم أحداً. * كاتب لبناني