بعد ترجمتها كتاب «مستقبل العمل» لجاك أتالي، وهو أحد أهم مفكري فرنسا والعالم، ها هي الملحقية الثقافية السعودية في فرنسا تعاود التجربة في تناولها لمواضيع ذات أهمية بالغة على مستوى العالم، فضلاً عن ملامستها لقضايا قائمة تطرح جدلاً فاعلاً، إذ قامت أخيراً بترجمة كتاب «نهاية الصحف ومستقبل الإعلام» الذي يبدأه مؤلفه، وهو الصحافي الفرنسي المتمرس «برنار بوليه»، بحقيقة أن عدم الحديث عن تقهقر الصحافة المكتوبة هو من قبيل المكابرة التي وجدناها لدى الاقتصاديين والسياسيين تجاه الأزمة المالية العالمية، ويؤكد أن الحديث عن نهاية الصحافة الورقية صار بمثابة المحظور في فرنسا، بينما هو ساخن وجاد في أميركا، في الوقت الذي يعترف فيه الجميع بأن «الصحافة في أزمة»، وقد نبّه إلى أهمية هذا الأمر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بإطلاقِهِ «الهيئة العامة للصحافة المكتوبة» في خريف 2008. لكن هذه الهيئة، كما هي الحال في الأسواق المالية، لم تقم في نهاية المطاف بأكثر من إجراء تعديل في عملية التنظيم»، وبالتالي فإنها عبارة عن مسعى للإصلاح فقط وإعادة التنظيم الوظيفي والمالي من دون مواجهة الحقيقة لواقع الصحافة الورقية اليوم، التي يغادر الإعلان مادتها وينأى عنها القارئ على تعدد اهتماماته، ما دعا الكثير من مسؤولي الصحافة والنقابات الصحافية إلى بذل ما بوسعهم لتحقيق استراتيجيات جديدة، قادرة على تجنيب مؤسسات صحافية دفع ثمن التغيرات، بينما يلزم الأمر الإسراع نحو الابتكار والاختراع لا إلى الإصلاح وتقديم المعونات. ويسرد هذا الكتاب - الصادر بلغته الفرنسية في طبعته الثانية 2011 من «دار غاليمار» - آراء الكثير من المشاهير في عالم الاتصال الحديث حول الصحافة ومستقبلها، فالمدير العام لشركة «ميكروسوفت» ستيف بيلمير يقول: «خلال السنوات العشر المقبلة، سيتغير عالم وسائل الإعلام والاتصال والإعلانات رأساً على عقب.. لن تُستهلك أي وسيلة إعلامية إلا على الإنترنت. لن تعود هناك أي جريدة أو أي مجلة على الورق...». أما مؤسس شركة «آبل» الراحل ستيف جوبز، فيؤكد أنه من غير المفيد الاستثمار في صناعة الكُتب الإلكترونية ووسائل القراءة الإلكترونية الأخرى، لأنه قريباً لن يعد هناك من يقرأ. ولم تأتِ هذه الشهادات وغيرها من منافسين للصحافة الورقية فقط، بل نلمس هذا المذهب عند المختصين بشؤون الإعلام، فهذا أفضل محللي وسائل الإعلام الأميركية فين كروسبي يُؤكد أن «أكثر من نصف 1439 صحيفة يومية في الولاياتالمتحدة الأميركية لن يكون لها وجود في 2020، سواء على الورق أو على الويب أو على شكل جريدة إلكترونية»، ويدعم مقولته هذه بأرقام ساحقة، ففي 2008 وصلت عملية توزيع الصُحف إلى أدنى مستوى لها منذ 1946، وذلك بواقع 53 مليون مشترٍ، في مقابل 62 مليون عام 1970. ومع نمو عدد السكان، فذلك يعني هبوطاً بمعدل 74 في المئة، ومن وجهة نظر كروسبي فإن تشخيصه ينطبق على كل البلدان. وهنا نفهم السبب وراء ظهور العديد من المقالات التي تزامن أحدها مع هذا التصريح لكروسبي الذي نُشِرَ في دورية الصحافة الأميركية، حاملاً عنوان «ربما حان وقت الذُعر؟». من هنا فُتح الباب للمساءلة حول الصحافة الورقية ومستقبلها، وهل هي إلى نهاية كما يروّج لها منذ عقدين من الزمان؟ مستشهداً (المؤلف) أنه صار للصحافة متحف خاص في واشنطن يقوم ب «مساعدة الجمهور في فهم مدى أهمية وجود صحافة حرة»، لكن هناك من رأوا فيه سوء الطالع، فهو متحف للتكريم الأخير الذي «يُقام للمحاربين القُدامى قبل اختفاء آخر الشُجعان، مع أنه يُذَّكِر ببطولات المراسلين الصحافيين الذين غطوا الحروب والأسرار التي كشفها صحافيو الاستقصاء وشخصية «الأقلام العظيمة وملاحم الصُحف». وفي مقارنته بين واقع الصحافة الفرنسية وبين واقعها في أميركا، يرى الكاتب أن المشكلة في فرنسا تعود لعدم وجود «مجموعات إعلامية كُبرى» كما هي الحال في الصحافة الأميركية التي طُرحت للتداول في البورصة وحُكِم عليها بأن «تولِد قِيماً للمساهمين»، ويبقى همّها جلب المزيد من الكسب، إلاّ أنه في جميع الأحوال لا يمكن الوقوف على مشكلات الصحافة اليوم من خلال وجود «مجموعات إعلامية كبرى» وحسب، بل يجب البحث عن التحديات الحقيقية التي يواجهها الإنتاج الإعلامي من حيث «توافر العناصر الحيوية المتمثلة في القُراء والإيرادات والتوزيع». وبحسب المؤلف فإنه لا يوجد اختلاف بين الوضع الفرنسي والوضع الأميركي بالنسبة إلى الصحافة اليومية الوطنية «الكبرى» منها، فهي ماضية إلى الانحدار ودخولها الأزمة بخسائر مالية كبيرة، على رغم أنها منذ فترة زمنية قامت بإجراءات إدارية واقتصادية صارمة، كتسريح العُمّال والمراسلين، وتقليص مصاريف التشغيل، وخفض عدد الصفحات، وهذا قد انعكس سلباً على القُرّاء، ما زاد من الخسائر، فضلاً عن هبوط في الصدقية عندما حاولت محاكاة تجربة الصحافة الأميركية في الكشف عن الحقائق وبحيادية، لأنها مثلاً صارت لا تعبِّر عن آراء الأحزاب التي ينتمي لها قرّاء هجروا هذه الصحف، فهي لا تلبي توجهاتهم، ويصف المؤلف هذه الحالة بأنها أزمة أخلاقية، وهذا ينسحب على دول أوروبا وإن اختلفت أوجه هذه الأزمة. وفي فصل آخر تم استعراض واقع الإعلان وهجره للصحافة، لكونها لم تعد أفضل الوسائل في عالمٍ قد حدَّت من وصول الإعلان إلى عامة الناس الوسائل الرقمية وشبكة الإنترنت. وترى دراسة متخصصة أن الأزمة «ناتجة من فك الارتباط بين الأخبار والإعلانات»، فضلاً عن انتشار الإعلان بوسائل أخرى متعددة وبتسارع هائل تشكله الحوامل المختلفة من مواقع الإنترنت. وخصص المؤلف ل «ماكنة غوغل» فصلاً كاملاً، بصفته أعظم تطورات العصر الرقمي، وهو يتحكم بأطراف الاقتصاد الجديد، لامتلاكه أدوات عالية الدقة، ويمكن متابعة فعالية عملياته للمعلنين ومواقع الاستضافة على المستوى العالمي وتكييفها بحسب الطلب، ما يجعله النظام الإعلاني الأكثر عالمية والأكثر تفاعلية في السوق»، وعمدت الكثير من الصحف إلى التعاون مع «غوغل» لأنه يجلب لها مُعلنين جُدداً. ومن جانب يُبشر الكاتب بأن المستقبل الواعد للإعلام سيكون عبر المجموعات متعددة الوسائط أو ما اتفق على اصطلاحه ب «وسيلة إعلامية شاملة»، ما يلزم هذه المجموعات الاستناد إلى أقوى الأسماء في عالم وسائل الإعلام التقليدية حال الوجود على شبكة الإنترنت كشرط مهم للبقاء، وكذا تحقيق ديمومة «مهنة الصحافة» في العالم وبقائها حيّة على رغم هذه الإشكالية التي باتت مقلقة لدى كبار المؤسسين الإعلاميين، وإن بقي رهان بعضهم على تنويع المنتج أو تقديم جودة عالية أو طرح نشر مزدوج «ورقي وإلكتروني»، أو حتى تغيير موطن الإنتاج للمحافظة على أكبر شريحة من القرّاء خارج الموطن الأصل، وهذه الوسيلة الأخيرة لها شواهد كثيرة حتى في الوطن العربي. وإن كان هذا الكتاب وقف على حال الصحافة في فرنسا وأميركا، فهو لا يُجافي حقيقة الواقع في الوطن العربي، وبخاصة في مصر ولبنان ومكينة الإعلام الكبيرة في الخليج، ومنها الصحافة الورقية التي ليست بعيدة من هذه الإشكاليات التي طرحها هذا الكتاب المهم، الذي يلزم المؤسسات الصحافية أن تُباشره بالاطلاع والمراجعة، شاكرة بذلك بادرة الملحقية الثقافية السعودية بباريس في نقل هذه المادة الجادة من اللغة الفرنسية إلى لغة الصحافة العربية. وفي الوقت نفسه لا نغفل عن الإشادة بجهد المترجم في التعريب والنقل، وهو الباحث اليمني في علوم الاتصال والإعلام في جامعة السوربون خالد الخالد.