(الى اصدقائي في حمص ونظيراتها) حمص التي في بالي خضراء ندية فيها من أنوثة الحياة ما يبقيها خصبة ولاّدة، كلما تقدمت في السن والسنين ازدادت شباباً ونضارة حتى تغدو أشبه بشابة مغناج تتيه عشقاً ودلالاً موقعةً محبيها في غواياتها التي لا يحلو لأسراها منها فكاك. حمص التي في بالي مدينة شاعرية شاعرة تكتب الشعر وتهوى الشعراء وتحسن وفادتهم واستقبالهم حتى تكاد أن تشيلهم على الراحات. انتسبتُ اليها شعراً وعقدتُ معها صداقات حبر ومودة وأقمتُ فيها حباً وأمسيات، ولطالما رددت على مسامع أهلها أنني حمصي الهوى والأهواء، خصوصاً أن القدر شاء أمسياتي فيها كل أربعاء وهو «العيد الوطني» كما يسميه أهلها لطافةً وظرفاً وخفة دم. من المدن جميعاً يبدو أبناء حمص أكثر لطفاً ودماثة وأكثر ظرفاً وسرعة بديهة، ما أن تلتقي أحدهم حتى يبادرك سريعاً: هل سمعت آخر نكتة حمصية؟ وأنت لا تملك سوى الضحك والابتسام لشدة الحنكة والذكاء في تركيب النكات وحبكها ولو كانت على الذات، حتى أن بعض علماء الاجتماع يعتبر أن من مقاييس تحضر الشعوب مقدرتها على انتقاد ذاتها. لكن ميزة «الحمصنة» ليست النكات وحدها بالتأكيد، ففي مدينة «ديك الجن» يلفتك الذكاء الحاد والفطنة العالية والنباهة الشديدة وسرعة الخاطر، ما يعاكس مضامين كل النكات التي تؤلف عن الحماصنة أو يؤلفها الحمصيون عن أنفسهم، فضلاً عن سعة الثقافة والمعرفة والتعليم العالي. وما ستيف جوبز الجندلي سوى مثال على حدة الذكاء الجيني لدى أبناء المدينة. مدينة العاصي التي استعصت على كثير من الويلات والمحن وحافظت دائماً على ألقها وتناغمها وسحرها وحريتها وتنوعها وفرادة نسيجها الاجتماعي الذي منحها رتبة متقدمة بين المدن تكاد تقع في المحظور، أو هكذا تقول الأنباء التي ينقلها الأحبة والأصدقاء من هناك. فهل من موجب تذكير ابنائها الذين يعرفون أكثر منا حقيقة مدينتهم ونصاعة تاريخهم وتفاعلهم وتواصلهم الانساني الخلّاق أن لأشهر خلت كان من الصعب على الصديق الزائر معرفة المسلم من المسيحي والسنّي من العلوي والدرزي من الشيعي، وما كانت هوية لأبناء البلد الأمين سوى واحدة: سورية. طبعاً ما تمر به سورية ومدنها ودساكرها وأريافها صعب ومؤلم وقاس تتداخل فيه ظروف وعوامل كثيرة داخلية وخارجية، لكن لا بد من القول الآن: تباً لكل خطاب طائفي، لكل تحريض مذهبي، لكل دعاة الفتنة سواء أكانوا من هنا أو من هناك، وتباً للقتل وسفك الدماء. فالمسؤولية اليوم على عاتق الجميع أياً كانت طبيعة المقبل من الأيام وتطوراتها، كي لا ينجرف بلد عربي جديد الى أتون الفتنة الطائفية البغيضة التي يخسر فيها الجميع حتى مَن يتوهم نفسه رابحاً أو منتصراً. لعلنا معشر اللبنانيين أكثر من اكتوى بنار الفتن على أنواعها، لذا يصح فينا القول «اسأل مجرب ولا تسأل خبير»، ومن خبرتنا المأسوية نقول كل شيء مقدور عليه إلا الفتنة التي متى استيقظت يكون من شبه المستحيل إخمادها، ويكفينا ما استيقظ من فتن حتى الآن في بلاد العرب. ولعل المعضلة الأصعب أمامنا جميعاً الآن كيف يتحقق الاصلاح والديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والمشاركة والتقدم والرفاه من دون الوقوع في براثن الفتن وفي شرك الساعين الى تفتيت بلادنا وتجزئتها مجدداً وجعلها نهباً للفوضى والصراعات الدموية القاتلة وركوب موجات الحرية والتغيير واستغلال حقوق الشعوب الشرعية والمشروعة لأجل غايات ومصالح باتت لا تُخفى على لبيب. أكثر من أي وقت مضى أشعر أنني حمصي الهوى والمودة (ولست خارج التغطية كما تقول الطرفة الحمصية الشهيرة)، قلبي على حمص ونظيراتها وحبري مشوب بالدمع الى أن تخرج المدن والبلاد كلها من مستنقع الدم والدموع وتعود الضحكة حرة واسعة وسع السماء التي لا يحدها حد وعمق البلاد الضاربة في التاريخ والجغرافيا وابتكار الحياة.