إذا قرأنا الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الثقافية، بمختلف أشكالها، أو المؤتمرات المتناسلة والتي أشعر بممانعةٍ ذاتية من ارتيادها، نرى أن الصورة العامة لأداء تلك المؤسسات تقوم على حراسة الأفكار، وإعادة تعليبها وترويجها. إنها من أضخم المصانع المعلّبة للأفكار الميتة والموزعة لها. لم تعش المؤسسات الثقافية أجواء الاختلاف، وصيغ الأضداد. لهذا لا تزال بعض الأندية الأدبية مشغولة بالتناص، والتيارات في بعضها حتى اليوم منقسمةً بين قصيدة التفعيلة، أو شعر النثر، مع استعادةٍ –أحياناً-لمعارك العقاد وطه حسين والرافعي. مع أن العالم صار وتغيّر وتحول، والكثير من الحروب الطاحنة، ومعارك داحس والغبراء بين بعضهم لا قيمة لها! إن بعضهم يتناقشون بإسهاب حول مجالٍ انتهى وانطمس من التداول المعرفي الحالي؛ لهذا تجد بعض المؤسسات الثقافية في أمثال النائمين على معارك حدثت منذ نصف قرن، أفضل بديلٍ عن الطروحات الجادة والتي تتناول مسائل حيوية ملحّة وهي ضمن الإطار الثقافي والفلسفي، مثل التواصل والتقنية، وأسئلة المجتمع والدين والفن والجمال، أسئلة الديموقراطية، آثار الأحداث الواقعية الحالية، وسواها من القضايا التي تمس الواقع وهي ضمن التداول المعرفي سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الفلسفة أو علم الاجتماع. قيمة الحوار المعرفي في الأضداد التي ينتجها، أما الرعاية للمجالس الجالبة للنعاس، والتي يتحدث فيها شخص لمدة ساعة، ثم يعلق عليها الحاضر بدقيقتين، فهذا الأسلوب قد صار مملاً وباهتاً. إن مما يعزز النفرة من الجلسات الحوارية أو الثقافية، أن النفس البيروقراطي الطاغي على المؤسسة نظامياً انتقل إلى الصالات والندوات، بحيث تعزز حالة الزعامة لرئيس هذا النادي أو ذاك من دون أن يبتكروا أسلوباً جديداً ، لهذا تكون الأندية في بعض وجوهها "ثلاجات" لحراسة ما هو مطروح، أو للنفخ فيما هو ميت من النظريات، كما أن فقدان الحرية في التعبير عن الرأي في المجالات التي تشغل الفلسفات والعلوم حالياً من أبرز أسباب اتجاه تلك المؤسسات إلى المواضيع الباهتة لتكون ضمن أنشطتها الثقافية. ولو كان الجدل المطروح في تلك المؤسسات يمسّ لغة العصر وحداثاته، لما رأينا رؤساء أنديةٍ لا يعرفون كيفية استخدام البريد الإليكتروني، فضلاً عن صرعات العصر الأخرى وأدوات سحره الآسرة. المثقف مثل الفنان، يحتاج إلى متابعة التحديثات التي تجري في العالم، من مؤلفاتٍ أو نظريات، من أساليب طرحٍ أو مستجدات سجال، ذلك أن الفنان حين يبقى على أساليب تعبيره القديمة يصبح ماضياً، حيث لا يأبه أحد لما ينتجه من أعمال، بينما بعض المثقفين لديهم الأطروحات نفسها منذ سنين، ولم يستطع بعضهم أن يفهم لغة الجيل الحالي الساكن معه في بلده، فضلاً عن أن يستطيع فهم حركة المعرفة عالمياً. إن إقامة الحوارات الباهتة على الأنماط القديمة ربما يمنح الحاضر معلومةً إضافية، لكن الفعاليات النمطية تعجز عن شحذ التفكير، ذلك أن:"كثرة المعلومات لا تعلم إنساناً حتى يتمتع بالذكاء والعقل، ولن يتسنى للإنسان معرفة الحق إلا من خلال الأضداد" -كما يعبر هيراقليطس-. آن للمؤسسات الثقافية أن تخرج من هذا التيه المعنوي الذي أثمر عن هشاشة عجيبة وضمور في الأساليب، من أجل هجر الأساليب القديمة، حين أتذوق النص الجيد لا أحتاج إلى سجال يستمر لسنوات هل النص اللذيذ يصنف من الشعر أم النثر، إنه نص جميل وفني وكفى، أما أن تزهق الأموال والجهود والأعمار في قضايا صارت في ذمة التاريخ فهذه كارثة. أما في المؤتمرات ذات الطابع الثقافي فيكفي أن ترى التجمهر والادعاء والتفاصح والتغطرس لتعرف جيداً أن الثقافة -في بعض وجوهها-صارت زياً ووسيلةً لارتفاع أرنبة الأنف والزهوّ بذواتٍ فجّة ورؤوس يعلوها الغبار والجهل، وجدران مخّ تعوي بداخله ذئاب الغباء! [email protected] Twitter | @shoqiran