الحداثة الفائقة هي التي أحرقت الصحافة الورقية، وهي حداثة لم تقتصر نارها اللاهبة على إحراق الصحافة الورقية في الغرب وإنما شملت حتى الصحف والمجلات العربية، بعض الصحف التي لا تزال تقاوم الموت تحولت إلى «صحف إعلانات»، وقد لفت نظري في مجمع تجاري كبير استخدامهم الصحف الورقية للفّ المشتريات الزجاجية، بدلاً من استخدام الأوراق المخصصة لحماية الزجاج. إنها نتيجة من نتائج التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب وإنما على المستويين الفلسفي والوجودي، إذ تمزقت الحدود التي كانت بمثابة خطوط ممانعة ضد الآخر، الآخر نفسه اختفى، تحولت الذات إلى وجه من وجوه الآخر، واختفت المعارك الكلامية الكبرى وأصبحت الساحة الفكرية والأدبية «ساحة عرض» - بحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي بودريار - حيث أخذت طرق عرض الأفكار شكل «معارض الفن»، كل يعرض تصميمه الفكري ويغادر من البوابة الأخرى، ينظر الناس إلى الأفكار وزخرفها كما ينظرون إلى اللوحات الفنية والتشكيلية تماماً من دون ضجيج، أصبحت الساحة ساحة عرض وإمتاع فكري، أكثر من كونها ساحة نقاش وقضايا وحجاج على الطريقة الفلسفية الإغريقية، وهي حالة تنبأ بها قديماً الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر حينما رأى أن التقنية ستعيد هيكلة الإنسان، ليأتي من بعده ميشيل فوكو معلناً «موت الإنسان» وتوزعه بين أنياب السلطات واختفائه بين جيوب الواقع والرغبات وتصاريف الحياة. إذا كان عصر النظريات الكبرى، وعصر النفخ بالقضايا انتهى، فإن ما بقي هو عصر نقاش الأجزاء المتناثرة، والتركيز على عروق تلك الأجزاء، ومركّباتها، وفحصها، ونشر نتائج ذلك الفحص، وهي المهمة الأصعب بالنسبة للكتّاب والعلماء، من السهل طرح الكاتب لنفسه على أنه المنافح عن الهوية، وعلى أنه المظلوم والضحية، وعلى أنه الوحيد والغريب الذي يدافع عن الحق، لكن تلك الادعاءات لن تضيف سوى «ثرثرة» تعكس المحتوى الثقافي ومستوى البيئة التي نشأ عليها ذلك الكاتب. إن مجرد معرفة مستوى السجال والعراك بين الكتّاب من أجل قضايا تافهة وسطحية يعني إدراك الانهيار الذي تعاني منه المجتمعات العربية، فهي تغرق في تفاهات وحماقات ومشاكل شخصية منشؤها المغزى الذاتي، كما هو حال الاتهام بالعمالة والتخوين، أو الجنوح نحو المزايدة وادعاء المنافحة عن الهوية الإسلامية أو العربية، بينما الهوية - كما يقول هيدغر - مثل الوشم العميق لا يمكن للإنسان مهما حاول أن يزيله، لكنه عماء المزايدة وهوس إرادة الظهور بمظهر الطهر والنقاء المتكلّف عبر نزغات المزايدة، وعبر شهوات ذاتية تخترع كل أسبوع قضية لتحقق عبرها مكاسبها الشخصية. إن نهاية الصحف الورقية هو جزء من سلسلة نهايات بدأت مع افتتاح القرن العشرين (انظر كتاب علي حرب «حديث النهايات») وهي نهايات لم نستوعبها بعد، إن «نهاية الصحف الورقية» هو جزء حيوي من تجدد العلاقة وتحولها بين الإنسان و«الذات، والمعرفة، والوجود». إن موجة الحداثة الجديدة، أو الحداثة الفائقة، أو الحداثة البعدية ستقوم بعملية تصحيح لقرون طويلة من العادات المعرفية والنظريات الفكرية، ستقوم بتصحيح يشبه عملية الكنس لأفراد وثقافات وأفكار وأدوات وألبسة، كلها ستكون بعد سنوات قليلة جزءاً من أحداث التاريخ، إنه عصر نهاية القضايا والنظريات الكبرى والشروحات الكبرى، لهذا كتب الفيلسوف الفرنسي «جون ميشال بيسنييه»: (انتهى عصر النظم الشرحية الكبرى، لكن ذلك لا يعني أن الفلاسفة تخلوا عن التفكير، بعضهم يستكشف حواف ما بعد الحداثة، وبعضهم الآخر يتورط في مشاكل المدينة، البعض يستعيدون دروب الحكمة القديمة، والبعض الآخر يصاحبون أسئلة العلم المعاصر)! [email protected]