يشعر البعض أن في التسهيلات التي قدمتها التقنية الحديثة من أجل العثور السريع على المعلومات أكبر برهان على انفراجٍ في جدار الجهل، وأن مجرد العثور على كم هائل من المعلومات يعني انبجاس إنجاز معرفي، صحيح أن «المعلومة» هي مادة التفكير، غير أن امتلاك المعلومة وحدها لا يمنح الإنسان القدرة على التفكير، وبتفسير مادي يصف «جورج بوليتزر» التفكير بأنه «أداة عمل، وإذا كانت أصابعنا لا تعمل دائماً عملاً دقيقاً فكذلك الأمر بالنسبة لدماغنا، إن تطور الفكر كتطور العمل اليدوي نفسه»، بمعنى ما يصبح التفكير هو المختبر الذي يفحص المعلومة عبر اختبارها أو تمرينها، عبر اعتمادها أو تكذيبها. يقول هيراقليطس: «كثرة المعلومات لا تعلم إنساناً حتى يتمتع بالذكاء أو العقل»، إذ الوفرة المعلوماتية لا تمكّن صاحبها مرونة التحليل والتفكير، وإذا كان التفكير يتطلب «تمريناً»، بحسب بوليتزر ويتطلب حركة عقلية ودماغية دائمة، فإن المعلومة الصرفة محتوى خام تحتاج إلى تشريح. هيراقليطس نفسه يقول: «إن معرفة الكثير من الأشياء لا تجعل الإنسان يمتلك الذكاء»، فالفرق بين «المعرفة» وبين «آليات توظيف المعارف» لم يعد من الأسرار، فهو يصر على أن « غزارة المعرفة لا تعلم التفكير». في عصر تصبح فيه المعلومة متاحة لكل متصفح للنت، وكل متسكع في القنوات الوثائقية والاكتشافية نحتاج بمستوى الشغف المعرفي نفسه إلى «لحظات تمرين فكرية» نمارس عبرها النقد والنقاش للمعلومات التي نشأنا عليها، أو للمعلومات التي تطاردنا كل يوم؛ فمن المهم ألا تصبح المعلومة «غاية» بقدر ما تصبح حقلاً إمكانياً للتفكير والنقد، وألا يتحول القارئ إلى أداة حفظ واستسلام. ومن إبداعات هيراقليطس أيضاً قوله «إن من عادة الأبله أن يُسرّ بكل كلام» والعصر الحديث ببحر معلوماته المتلاطم كشف عن السطحية المعرفية التي يغرق في جوفها بعض السذج الذين يركضون بعد تلقي أي معلومة نشراً وانتشاءً ودفاعاً! إذا كانت العلوم تجيب عن أسئلة ال«كيف» فإن البحث في ال«لماذا» من خاصيات التفكير الفلسفي وهو الذي يبحث في المعاني الكونية والذاتية من أجل إيجاد مقاربات حوارية وإنجازات سؤالية تحرض الكائن على الاستمرار في التفكير، وتنشيط موهبة التحليل، وفيلسوف التغير والحركة هيراقليطس يقول أيضاً: «لقد بحثت عن نفسي بنفسي»، يضيف شارحه ثيوكاريس كيسيديس: «الوصول إلى الحقيقة ليس متاحاً إلا للروح التي تحترق ولا تنام أبداً الروح القلقة دائماً الباحثة عن المجهول». في عصر انشطار كتلة المعلومات وانتشار البحوث والدراسات والتحقيقات، يصبح من اللازم الانتصار للتفكير في عصر المعلومة، بعد أن أصبحت الدرجات الأكاديمية العليا متاحة لمن هب ودب، وتحولت معه المعارف إلى وظائف؛ اختفى الحس التأملي، باتت البحوث الأكاديمية مجرد محتويات معلوماتية فقيرة فكرياً، هذا ما نلمسه للأسف في المباحث التي تغرق بالمعلومات وتئنّ من العقم الفكري والنقدي... إن التفكير بوصفه عمل الفلسفة لم يعد من الترف الاستعراضي بقدر ما أصبح من لوازم أي مشروع علمي أو بحثي. إن الفلسفة عامةً لم تعد كماً من المعلومات الفلسفية، بقدر ما أصبحت هي «شكل» الجهد الفكري الذي يوظّف المعلومات، وعلى حد تعبير هيغل في كتابه «فينومولوجيا الروح»: «إن كل ما يقال عن الفلسفة في مقدمة ما من عرض موجز لمبادئها، أو توطئة للدخول عليها، لا يتمتع بأية قيمة فلسفية»، بمعنى أن التحويل أو التوظيف هو الجهد الفلسفي الحقيقي بعيداً عن التكريس والتنميط الاستهلاكي. [email protected]