سحر الشرق، وما وصل الى الغرب من اساطيره، كثيرين من الغربيين رجالاً ونساء، وألهب خيالهم قبل تطور وسائل المواصلات التي سهّلت السفر، وقرّبت بين اقطار العالم، فلم تبق بقعة مهما كانت نائية، بمنأى عن السياح وفضولهم، وعن آلات التصوير وادوات التسجيل والهواتف المحمولة التي لم تترك لخيال عشاق السفر وهواة المجهول ومغامراتهم المحفوفة بالمفاجآت والمخاطر من مزيد. وقد أثار الشرق، الادنى منه والاوسط والأقصى، خيال العديد من النساء الغربيات، فضلاً عن الرجال فقضين فيه سنوات طويلة من اعمارهن، حتى اقترنت اسماؤهن به، ووضعن المؤلفات والمذكرات عنه، ثم كُتبت في سيرتهن الكتب والدراسات، وقضى بعضهن نحبهن فيه، ومن اشهرهن غيرترود بل، وفريا ستارك والسيدة لوريمر وكثيرات غيرهن ممن ذهبن الى الشرق بمفردهن او بصحبة ازواجهن. على ان اقدمهن هي المرأة الارستقراطية البريطانية الليدي هستر ستانهوب التي سبقتهن جميعاً بنحو مئة عام، واجتذبها سحر الشرق، وعاشت في لبنان واستقرت فيه، وقضت في ربوعه تسعاً وعشرين سنة اصبح لها خلالها شأن خطير بين وجهاء البلد وحكّامه، ثم ماتت فيه ودُفنت في ثراه. وقصة الليدي هستر ستانهوب من اغرب قصص الرحالة الاجانب في الشرق وسيرتها اشبه برواية خيالية منها بسيرة امرأة تنتمي الى المجتمع البريطاني المحافظ في القرن التاسع عشر. ولدت هستر ستانهوب في مقاطعة كنت في سنة 1776، لأسرة بريطانية عريقة. ابوها اللورد ستانهوب 1753 - 1846 وامها شقيقة وليم بت الصغير رئيس وزراء بريطانيا الذي كان من نوابغ الشباب في التاريخ، وتولى رئاسة الوزراء وهو في الخامسة والعشرين من عمره. ولما كان ابوها يحمل لقب لورد فقد اصبح لقبها بصورة تلقائية الليدي هستر ستانهوب. وقد نشأت فتاة على جانب كبير من الجمال، ذات روح مرحة، وشخصية قوية، ولسان سليط. ولما شبّت عن الطوق أقامت مع خالها خلال رئاسته للوزارة للمرة الثانية بين سنتي 1804 - 1806 وتولت ادارة شؤون بيته وأصبحت مضيفته لأنه كان عازباً. وكانت اقرب الناس اليه. وبنتيجة اقامتها في دار رئيس الوزراء ووجودها في دائرة مجتمعه واصدقائه، ارتبطت بروابط الصداقة مع شخصيات مهمة في مجتمع لندن الارستقراطي في اوائل القرن التاسع عشر. وفي سنة 1806 توفي خالها وليم بت الصغير فكانت وفاته صدمة كبيرة لها، تلتها صدمة اخرى حين توفي خطيبها الذي كانت تحبه، بعد خالها بمدة قصيرة. ثم ارتبطت بعلاقة عاطفية مع السير جون مور، القائد البحري وبطل معركة كورونا البحرية مع اسبانيا، ولكنه لم يبادلها عاطفتها. واجتمعت هذه الصدمات المتتابعة لتحملها على التفكير في الهرب من الجو الخانق الذي احاط بها، ومحاولة نسيان همومها. وكانت تسمع الكثير عن الشرق وسحره، وعن قصور السلاطين العثمانيين، وعرب الصحراء، وعن المغامرين الذين يرحلون الى الشرق ثم يعودون مبهورين بمشاهداتهم وربما مع كثير من المبالغات فقررت ان تحذو حذوهم وتهرب من واقعها وتسافر علها تجد عوضاً عمن فارقتهم، وتلتمس راحة البال ونسيان الماضي في تلك البقاع الجديدة والغريبة عليها. وفي سنة 1810 أبحرت هذه الفتاة الحسناء متجهة الى جبل طارق وكان ركبها يضم شاباً يدعى مايكل بروس كعشيق لها، يقوم بحمايتها ويساعد في تمويلها وكان ابوه من كبار الاثرياء في لندن. واستصحبت الليدي ستانهوب معها طبيباً انكليزياً هو الدكتور مريون وخادمة من ويلز وحاشية صغيرة من الخدم تزايد عددها كلما اقتربت من الشرق. ووصلت الى القسطنطينية في 3 تشرين الثاني نوفمبر 1810 في عهد السلطان محمود الثاني، وهناك تعرّفت على السفير البريطاني الشهير اللورد كانينغ، واقامت صلة وثيقة معه. وبعد سنتين من التجوال بين تركيا واليونان اصطدمت سفينتها بصخرة وغرقت قرب جزيرة رودس، وكادت تموت في هذه الحادثة، ولكن سفينة اخرى انقذتها وأقلتها الى القسطنطينية ثم الى مصر. وفي مصر قابلت محمد علي باشا في عام 1811 فأعجب بها لجرأتها وقوة شخصيتها، ولم يكن يدري انه سيكون لها دور مناهض لسياسته في المستقبل، بل انها ستصبح من اشد خصومه. وقد بلغ من اعجاب محمد علي باشا بها ان سمح لها بتفتيش حرسه، وكان ذلك من مظاهر الترحيب بكبار الضيوف الاجانب والاعراب عن الرضى والتقدير كما انه اهداها جوادين مطهّمين. وانتقلت الليدي ستانهوب من مصر الى فلسطين، فزارت عكا، واستقبلها واليها، ثم زارت بيت المقدس في موكب كبير وأبّهة عظيمة، وقطعت الصحراء الى تدمر، ونصبت خيامها وسط اطلالها، وبالغت العشائر في الترحيب بها، واستقبلها افرادها بالمزامير واللافتات المرحّبة بها، حتى اصبحت تتخيل نفسها وكأنها الملكة زنوبيا. عاشت الليدي ستانهوب خلال السنوات الثلاث التي اعقبت مغادرتها بلادها في بذخ كبير. وفي سنة 1813 اي بعد مغادرتها لندن بثلاث سنوات تقريباً اقنع والد عشيقها مايكل بروس ابنه بالعودة الى انكلترا، وبذلك حرمت الليدي ستانهوب من جانب كبير من مواردها فضلاً عن بقائها وحيدة، وفي سنة 1814 استقرت بين قبائل الدروز في سفوح جبل لبنان، فأقامت اولاً في دير مار الياس القريب من صيدا، ثم منحها والي عكا ديراً قديماً على قمة تل قرب بلدة جون او ضهر جون غير بعيد من صيدا ايضاً، وكان معظم سكانها من الدروز. وهناك بنت مجموعة من الدور وسط حديقة كبيرة يحيط بها سور خارجي اشبه بقلاع العصور الوسطى، وصارت تعرف ب"دار الست". وشغلت اوقاتها في استقبال الزوار من اجانب ومحليين، والتآمر على القناصل البريطانيين الذين لم تحمل لهم احتراماً كبيراً، وتعدّهم مجرد وكلاء تجاريين، وتعاملهم باستعلاء، وتصفهم ب"الزواحف". وكانت تحرّض الدروز ليثوروا على الوالي ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر وتحاول تدعيم نفوذ السلطان العثماني وهو يتداعى. مارست الليدي ستانهوب في المنطقة نفوذاً كبيراً وسلطة تكاد تكون استبدادية في المقاطعات المجاورة لبلدة جون حتى ان ابراهيم باشا سعى الى ضمان حيادها عندما اوشك على اجتياح سورية في عام 1832، واصبح بيتها ملاذ كثير من الاوروبيين الهاربين وتوطدت بينها وبين الامير بشير والشيخ بشير جنبلاط صداقة كبيرة، على ان الامير بشير ما لبث ان غضب عليها حين علم انها تأوي الفارين من المواجهات العشائرية الطائفية في جبل لبنان. وكانت الليدي ستانهوب امرأة غريبة الاطوار الى حد كبير ولكنها كانت تحب العرب الذين عاشت معهم وتشير اليهم بأنهم "شعبها". وصار بعضهم يقدم لها فروض الطاعة بسبب نفوذها الواسع، وكان لديها اكثر من ثلاثين من الخدم الذين كانت تعاملهم بقسوة شديدة، وتفرض عليهم نظاماً صارما وقواعد دقيقة في سلوكهم، وتضربهم اذا خرجوا عليها، وكانت تربّي في بيتها عدداً هائلاً من القطط وغيرها من الحيوانات الاليفة وتؤمن بتناسخ الارواح، وتمارس التنجيم كلما استفزّها امر او ازعجها خبر. وكانت تدخن الغليون الطويل على العادة الشرقية في ذلك الزمان. وكان وجهاء المنطقة والزوار الاوروبيون الذين يزورون لبنان، يسعون لمقابلتها، فتستقبل بعضهم وترفض مقابلة البعض الآخر حسب اهوائها ومزاجها، وكان فيمن زارها امير بافاريا ماكسيمليان والشاعر الفرنسي لامارتين خلال زيارته المشهورة الى لبنان سنة 1832، وقد أذهلته غرابة منظرها، وقدرتها على التعبير، وقد وصفها في بعض ما كتبه عن لقائه بها قائلاً: "السيدة تبدو في حوالي الخمسين من عمرها وكان عمرها في الواقع 56 سنة وكانت لديها ملامح لا تمحوها السنون: فالنظارة، واللون، والكياسة، كلها صفات تغادر المرء حين يغادره شبابه، ولكن حين يكون الجمال كامناً في تكوين الانسان رجلاً كان ام امرأة، في صفاء التعبير، والاعتزاز بالنفس، والفخامة، والوقار، فإنه يتغير مع ملامح العمر ولكنه لا يزول. وهكذا كانت شخصية الليدى ستانهوب". وكان من اعظم متع الليدي ستانهوب التحدث الى زوارها. فهي تتحدث ساعات طويلة من دون توقف ولا ملل، حتى ان احد زوارها أُصيب بالدوار وأغمي عليه من اصغاء دام ساعات عدة، من دون ان يستطيع إسكاتها، ولا الانصراف. وفي اعوامها الاخيرة ساءت احوالها المادية ونضبت مواردها، فاستدانت مبالغ كبيرة من مراب مصري يدعى حمصي وعجزت عن سداد ديونها، فشكاها الدائن الى الحكومة البريطانية، وقرر اللورد بالمرستون، الذي كان وزيراً للخارجية آنذاك، قطع راتبها التقاعدي من الحكومة لتسديد ديونها، فأغضبها هذا القرار الذي لم يكن له مبرر انساني ولا سند قانوني، وكان اللورد بالمرستون يعلم ذلك ولم تكن لديه وسيلة لتنفيذ هذا القرار سوى الإيعاز الى القناصل البريطانيين في سورية ومصر بعدم التصديق على شهادة الحياة التي يجب ان تقدمها مرة في كل ثلاثة اشهر. وكتبت الليدي ستانهوب الى اصدقائها في لندن محتجّة على هذا القرار، واخيراً وجهت رسالة قاسية الى الملكة فيكتوريا قالت فيها: "استميح جلالتك ان أقول انه كلما كان هنالك أمر اكثر خزياً وإساءة للملكية من اصدار الأوامر من دون دراسة ملابساتها المختلفة، ومن فرض ما يطعن، من دون مبرر، بكرامة اي فرع او سليل لأسرة خدمت بلادها وآل هانوفر بكل اخلاص...". ولم تجد رسائل الليدي ستانهوب اذناً صاغية، فانقطع راتبها التقاعدى الذي كان موردها الوحيد، وأصبحت بعد حياة العز والأبهة التي عاشتها، امرأة بائسة، تعيش في وحدة قاسية، وقد نضبت مواردها، فأغلقت بابها، وبنته بالجص والآجر، ورفضت مقابلة أي زائر. عجوزاً اعتلّت صحتها، وفقدت نصف بصرها وكل اسنانها وكان طبيبها قد غادرها قبل مدة ايضاً وعاد الى انكلترا، وفي 23 حزيران يونيو 1839 ماتت في وحدة قاسية. ولما سمع القنصل البريطاني في بيروت ستيفن مور بمرضها وخطورة حالها، رحل اليها ومعه مبشر اميركي من بيروت، فلما وصلا الى بيتها في جون وجدا ابوابه مفتوحة وجثتها ممدة في سريرها. وكان البيت مهجوراً، والحديقة مقفرة ذوى نباتها، وخدمها هربوا جميعاً حاملين معهم كل ما تبقى لديها من متاع وأثاث. وفي منتصف الليل حملها القنصل البريطاني والمبشر الاميركي الى الحديقة ودفناها فيها على ضوء مصباح يدوي. وبقي قبرها هناك حتى نشوب الحرب الاهلية في لبنان في سنة 1975، ثم نقل رفاتها الى حديقة المقر الصيفي للسفير البريطاني في بلدة عبيه. ولما باعت الحكومة البريطانية ذلك المقر نفذت وصية الليدي ستانهوب بحرق جسدها، ونثره فوق بقايا الدار التي هدمها زلزال العام 1956، في احتفال اقامته السفارة البريطانية في مساء 23 حزيران يونيو 2004، وهو يوم وفاتها قبل 165 سنة. وقد حضر الاحتفال السفير البريطاني في بيروت ووفد يتقدمه وليم ستانهوب، سليل اسرتها الذي حضر من لندن للمشاركة في هذا الاحتفال، وكذلك رئيس بلدية جون وحشد من اللبنانيين والبريطانيين المقيمين في لبنان. وحملت الوعاء الذي يضم الرفات القنصل العام البريطاني او القنصلة كارين كافانا ونثرت رماده على بقايا "دار الست" في بلدة جون الحياة 2004/6/24 وكان ذلك آخر فصل من فصول حياة تلك المرأة التي أحبت لبنان وقضت فيه معظم حياتها، ولم تفارقه حتى الموت، ودخل اسمها في تاريخه، ونثر رمادها فوق ثراه. على رغم ان الليدي ستانهوب كانت تتمتع بقدرة فائقة على الكتابة باسلوب ادبي رفيع ولغة عالية، كما يظهر من مراسلاتها، فإنها لم تكتب كتاباً ولم تنشر في حياتها مؤلفاً، لكن طبيبها الدكتور مريون، نشر مذكراتها في ثلاثة اجزاء في سنة 1845، كما نشر مذكراته عن سفراته معها في ثلاثة اجزاء ايضاً في السنة التالية 1846، وهناك كتب عدة في سيرة الليدي ستانهوب الحافلة العجيبة