الكاتب الاميركي فيب لامار كان أول من تنبأ بغرق عراق ما بعد صدام في لجج صراعات حادة، بحثاً عن هوية جديدة. قال، في كتابه "تاريخ العراق الحديث": "العراق يبحث الآن عن رؤية جديدة لنفسه، لا بل أيضاً عن هوية ثقافية وسياسية مغايرة لا تتطلع إلا الى الداخل العراقي، وتحل مكان الهوية القومية العربية السابقة. لكن هذا لن يكون سهلاً". وبالطبع، ليس من الصعب معرفة لماذا هذا لن يكون سهلاً. فالأكراد العراقيون، المتمتعون بشبه استقلال تحميه الحراب الاميركية منذ أكثر من عقد، يجدون صعوبة كبرى في الاندماج في الجسم السياسي العراقي. والسنّة الخارجون لتوهم من تجربة القومية العربية في طبعتها الفاشية الصدامية، لن يسهل عليهم الاندماج في هوية يسيطر عليها لا الوطنيون بل الاصوليون في الفئات الاخرى. والشيعة يمرون في حال "احياء ديني" تتضمن تشديداً أكبر على دور الدين والشريعة في الهوية والسياسة. وهذا يخلق بينهم وبين الفئات الاخرى فضاءات شاسعة قد لا تملائها سوى الصراعات الحادة. من بين هذه الفئات الكبرى الثلاث التي تشكّل البنية الاجتماعية العراقية، يبدو الشيعة الأكثر تأزماً، والأكثر عرضة للتجاذبات الخطرة في الداخل كما الخارج. وهذا ليس أمراً مفاجئاً. ففي الداخل، يرقص الشيعة على وقع أنغام سياسية وايديولوجية غاية في التنافر والتباين: إذ فيهم السيستانيون أتباع أية العظمى علي السيستاني الذين يتبعون بدورهم أية الله العظمى الخوئي. وهذا الاخير يرفض رفضاً قاطعاً نظرية الخميني حول ولاية الفقيه وتدخل الدين في السياسة. وهو منحاز الى إسلام يبدو ليبرالياً الى هذا الحد أو ذاك، الى درجة دفعت أحد رجالاته ممثله في البصرة سيد علي عبدالكريم الصافي الموسوي الى الاعلان أخيراً أنه "يجب أن يكون الناس أحراراً في تقرير ما إذا كانوا سيعملون كذا أو كذا...، حتى ولو اقترع العراقيون لمصلحة إقامة دولة إسلامية". وفيهم الصدريون أنصار مقتدى الصدر الذين يخوضون الآن ما يبدو أنه معركتهم العسكرية الأخيرة مع حكومة اياد علاوي وداعميها الاميركيين. وهذا التيار يختلف بشكل عميق مع تيار السيستاني على كل شيء تقريباً: العلاقة مع قوات الاحتلال الاميركي وأساليب المقاومة ومسألة المشاركة في السلطة السياسية التي ولدت في حضن الاحتلال، والأهم: الخلاف على ولاية الفقيه والصراع على المرجعية الشيعية. وعلى رغم ان مقتدى الصدر، وهو نجل آية الله صادق الصدر الذي عيّن نفسه ولي الفقيه قبل ان يغتاله صدام حسين قبل نحو ستة اعوام، صغير السن نسبياً 32 عاماً ويفتقد الى الخبرة السياسية، إلا أنه أحرج السيستاني مراراً بمواقفه العنيفة ضد الاحتلال، وأثبت قدرة على تحريك مشاعر الفتية والفقراء الذين يشكلون غالبية الشيعة، الذين يشكلون بدورهم غالبة الشعب العراقي زهاء 60 في المئة. ولذا، قد لا يكون السيستاني متضايقاً كثيراً، إذا ما ادت المواجهات الدموية الراهنة في النجف، الى غياب مقتدى الصدر جسدياً أو تغييبه كظاهرة لها فعاليتها في اللعبة السياسية العراقية. لا بل يقال إن السيستاني قرر السفر الى لندن في النصف الاول من الشهر الماضي، ليس فقط لأسباب صحية، بل أولاً وأساساً لرفع الغطاء الشرعي الشيعي نهائياً عن مقتدى وتركه لقمة سائغة في فم علاوي والاميركيين. ثم ان في الشيعة ذلك التيار السياسي الذي جاء من المنافي الى السلطة على متن الدبابات الاميركية، والذي يشرف الآن على عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية الجديدة. بيد ان هذا الفريق يعاني من أزمة صدقية مع العراقيين، ليس فقط بسبب اضطراب الوضع الأمني. فكي يثبت أنه وطني عراقي، يتعين عليه أن يتخذ مواقف متمايزة عن تلك التي يتبناها الاحتلال. وهذا ما لا يستطيع ان يفعله، كي يحافظ على بقائه في السلطة، عليه ان يثبت بإستمرار انه قادر على نيل ثقة الاميركيين. وهذا ما يفقده الصدقية لدى الشيعة وباقي العراقيين. وأخيراً، هناك تلك المروحة الواسعة من الاستقطابات التي يتكسر على نصلها الجسم الشيعي: فهناك الليبراليون كما الشموليون، والملكيون كما القاسميون نسبة لعبدالكريم قاسم، والشيوعيون كما القبليون والطائفيون، إضافة الى اكثر من 14 رابطة قبلية، وعشرات المؤسسات الدينية المستندة الى الطائفية أهمها مؤسستا السيتساني والصدر و140 منظمة من كل ألوان الطيف الايديولوجي. الوليمة هذه التكسرات الداخلية الشيعية، تشكّل وليمة مغرية يسيل لها لعاب القوى الاقليمية والدولية التي تتنافس الآن على كسب حظوة الشيعة. وهذا كان أمراً متوقعاً كون شيعة العراق يشكلون "كتلة حرجة" للغاية ومتقلبة للغاية بالنسبة إلى العديد من هذه القوى. فهم يمكن ان يكونوا بالنسبة إلى إيران إمتداداً حيوياً واستراتيجياً وايديولوجياً بالغ الايجابية، إذا ما نجح الملالي في استمالتهم الى طبعتهم الثورية الخمينية. لكنهم يمكن أن ينقلبوا الى خطر استراتيجي وايديولوجي داهم، إذا ما ناصبوا هذه الخمينية العداء. إذ حينذاك سينقلب العالم كله الى ساحة صراع عنيف بين النجف العراقية "المعتدلة" وبين قم الايرانية "المتطرفة". وهذه الازدواجية الايجابية - السلبية نفسها تسحب نفسها على الدول العربية في المنطقة، التي سيعتمد موقفها منهم على موقفهم هم الشيعة من إيران. وهذا يعني ان هذه الدول ستقبلهم في صفوفها كأول دولة عربية ذات وجه شيعي، إذا ما تحّولوا الى منطقة عازلة بين العرب والفرس، لا كامتداد للفرس في أرض العرب. اما أميركا، فتبدو الأكثر اهتماماً من كل الاطراف الاخرى بمصير الشيعة، لانها مضطرة الى الاعتماد على قوتهم العددية في العمليات السياسية الانتخابية التي تنوي إدخالها في العراق الجديد. وبالطبع، لن تكون واشنطن في وارد تسليم السلطة الى شيعة عراقيين مقربين من إيران، في خضم معركتها الكبرى مع نظام الملالي. ومن هنا اهتمامها الشديد باضعاف حركة مقتدى الصدر وتقوية حركة السيستاني. ومن هنا أيضاً تهديدها المستمر بإعادة السلطة الى جنرالات "السّنة"، في حال يممت غالببية الشيعة وجهها صوب طهران. استراتيجيا وايديولوجيا كما هو واضح، المعركة الأساسية على مصير الشيعة، تجري بين إيران من جهة،، وبين مروحة واسعة من القوى العراقية الشيعية كما السنية والعربية والدولية. وهي معركة لها دوافعها الاستراتيجية، كما مبرراتها الايديولوجية - السياسية. وهذا أمر يتضح اكثر ما يتضح في الحالة الايرانية. فعلى الصعيد الاستراتيجي، حاولت طهران طيلة الشهور القليلة الماضية ممارسة دور "باطني" في العراق يتسم بالدهاء والحذاقة. ففي البداية، أبدت تحفظا على حركة مقتدى الصدر، لكنها مولّت جيشه "المهدي" وزودته بالعتاد والاسلحة. وهي، بداية أيضاً، اعترفت بمجلس الحكم الذي شكّله الاميركيون، لكنها أقامت أوثق الصلات مع كل الأطراف الشيعية التي تناصب هذا المجلس العداء. وهي، أخيراً، هادنت السيستاني علناً، بيد انها شجّعت أنصار نظرية ولاية الفقيه ومن بينهم الصدر على التمرد عليه سراً. لماذا مارست طهران هذه السياسة الازدواجية والباطنية؟ لأسباب عدة منها: 1- خشيتها استفزاز المحافظين الجدد الاميركيين، مما قد يدفعهم الى توجيه ضربات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة إسرائيلية إليها. 2- خوفها من فرض حصار دولي عليها، إذا ما قررت واشنطن مواصلة فتح ملفاتها النووية. 3- توجسها من إمكان تدخل اميركا في شؤونها الداخلية، في وقت باتت فيه الفجوة ضخمة بين الشعب ورجال الدين المحافظين. 4- وفوق هذا وذاك، كانت طهران حريصة على عدم إستعداء السيستاني عبر الدعم العلني للصدر، لأن ذلك قد يعرقل حرية حركتها بين الشيعة. لكل هذه الأسباب، اختارت طهران السير بين نقاط الماء لتحقيق أهدافها بالدهاء بدلاً من المواجهة، وبالباطنية بدلاً من العلنية. بيد أن قرب موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية رفع حرارة الصراع الى درجة الحمى، ودفع طهران الى اسقاط براقعها الديبلوماسية والى بدء استخدام كل أسلحتها، بما في ذلك ورقة مقتدى، لمحاولة اسقاط جورج بوش في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وهذه لعبة سبق لها ان مارستها بنجاح باهر في أوائل الثمانينات، حين عمدت الى إسقاط جيمي كارتر الديموقراطي بورقة الرهائن الاميركيين، ثم قبضت الثمن عداً ونقداً من رونالد ريغان الجمهوري. هذا على المستوى الاستراتيجي. أما على الصعيد السياسي - الايديولوجي، فبدهي أن تكون إيران مهتمة الى حد كبير ببروز نظام على شاكلت نظامها في العراق، وأن تنجح في جعل شيعة العراق امتداداً، لا منافساً، ايديولوجياً لها. وعلى رغم ان طهران حققت، ولا تزال، انجازات على الصعيد الاول، بدليل الارتباك الأمني والسياسي الكبير الذي يعيشه الاميركيون حالياً في العراق، إلا أنه من المشكوك به كثيراً أن تحقق نجاحات مماثلة على الصعيد الثاني. لماذا؟ لندع الكاتب والمفكر السياسي فالح عبدالجابر يجيب على هذا السؤال. في كتابه بعنوان: "آيات الله والصوفية والايديولوجيات في العراق، يقدم المبررات القوية الآتية لعدم وجود فرص تطابق بين الشيعيتين الايرانية والعراقية: تطور الشيعية في إيرانوالعراق خلال القرون القليلة الماضية، أظهر وجود سياقين مختلفين بشكل راديكالي لتشكّل المجتمعين. فالسكان الايرانيون أصبحوا شيعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أعقاب تأسيس السلالة الصفوية العام 1501، ومنذ ذلك الحين أصبح الاسلام الشيعي هو دين الدولة الرسمي عدا حقبة قصيرة إحتل خلالها الافغان السّنة أصفهان العام 1722. وفي المقابل تشكّل المجتمع الشيعي العراقي من اواسط القرن الثامن عشر فما فوق، والسبب كان صعود دور النجف وكربلاء كمعقلين للشيعة في بلد كان من ممتلكات العثمانيين السّنة. ثمة اختلافات كبيرة بين شيعة العراقوإيران في مجال الطبيعة التنظيمية. الشيعية الايرانية تمّيزت بشكلها التنظيمي الرفيع. والدين كان هو اللحمة التي حافظت على تماسك إيران لقرون عدة بضغط من الرأي العام الايراني. اما شيعة العراق، فتميزوا بعدم وجود مصالح بين العلماء والطبقات التجارية في مجتمعهم. فالتجار الشيعة لم يشكّلوا، كما في إيران، الهيكل العظمي للمؤسسة الشيعية. وهذا ما مكنّ الدولة السنّية من عزل الاسواق الشيعية المهمة في بغداد عن التأثير الفعال للعلماء الشيعة، ومن وضع الاوقاف تحت سيطرة الدولة. هناك تباينات عميقة بين الطرفين في طريقة ممارسة الشعائر الشيعية، ما يعكس وجود فروقات ثقافية واجتماعية. الاولياء المقدسون مشتركون بين رجال القبائل الشيعة والسّنة في العراق، والشيعية العراقية أكثر واقعية بكثير من مثيلتها الايرانية. إقامة الدولة الحديثة وصعود القومية، عززا هذه الاختلافات بين الدين والمجتمع الشيعي في إيرانوالعراق وباعدا الى حد كبير بينهما. ولعبت اللغة العربية والفارسية دوراً مهماً في تعزيز هذا الشقاق، خصوصاً بعدما أدار العديد من شيعة إيران ظهرهم للغة العربية. شيعة العراق لم يفكروا يوماً بالانفصال عن العراق والاندماج بإيران. كل ما كانوا يطمحون اليه هو الحصول على مداخل الى السلطة في بغداد، في دولة سيطرت على مقاليد الامور فيها أقلية سّنية منذ العام 1921. التمزّق ربما كان فالح عبدالجابر على حق. وربما لن تتمكن إيران من جعل شيعة العراق امتداداً ايديولوجياً وسياسياً لها. لكن هذا لا يعني بالضرورة انها لن تحاول. وهذا ما يعطي زخماً إضافياً للتجاذبات الاقليمية والدولية الحادة التي يتعرض لها حاليا شيعة العراق، والتي تكاد تمّزق النسيج الشيعي. لا بل هي بدأت تمزقه بالفعل، بعدما انشطر الشيعة الى صدريين وسيستانيين، ومتطرفين ومعتدلين، ومتعاونين مع الاحتلال ومعارضين له، علمانيين ودينيين وغير ذلك. كما بدأت شروخ هذا التشظي تصل الى المعطى الجغرافي، مع بدء تلويح بعض القوى الشيعية أخيراً بفصل الجنوب الذي يحتوي 90 في المئة من نفط العرا عن السلطة المركزية في بغداد. وإذا ما عنى هذا الأمر شيئاً فإنه يعني: 1- ان الصراع على انتماء الشيعة العراقيين، سيتواصل بكل الأسلحة السياسية والاقتصادية والعسكرية، بين كل الأطراف الاقليمية والدولية. 2- وان الصراع داخل الشيعة، بالتالي، سيتواصل هو الآخر، داخل كوكتيل غير متناغم وبالتالي متفّجر من التباينات التي يقف فيها الصدريون ضد السيستانيين، ولاحقاً السيستانيون ضد العلاويين، والدينيون ضد العلمانيين، والطائفيون ضد الوطنيين، والشوفينيون ضد العروبيين، وأخيراً الجهويون الانفصاليون ضد الوحدويين الوطنيين. 3- وان تصاعد المقاومة المسلحة العراقية لن يسفر سوى عن تفاقم هذه التناقضات، لأنه سيؤدي الى المزيد من الفرز داخل الشيعة حيال مسائل الشرعية والاستقلال والسيادة الوطنيين. فهل يعني ذلك ان الطريق يبدو مسدوداً أمام شيعة العراق؟ فلنقل، أولاً، ان العراق دخله دخل خلال الاشهر الماضية في نفق "حروب الآخرين" على أرضه. ومن سوء حظه أن هذا حدث، فيما هو غاطس في لجج البحث عن هويته وحتى عن مقومات وجوده ككيان سياسي. فهل يكون حظه سعيداً في وقت ما، إذا تم التوافق سريعا بين الدول الاقليمية والدولية على وقف صراعاتها فوق أرضه من خلال مؤتمر بإشراف الأممالمتحدة، كما طالب الاخضر الابراهيمي؟ أم يكون حظه عاثراً كلبنان خلال الفترة بين 1975- 1989، فيتحول الى اسنفنجة تمتص كل بلايا الشرق الاوسط وتناقضاته؟ ولنقل، ثانياً، ان الكثير سيعتمد على بروز نخبة جديدة في صفوف الشيعة العراقيين تقوم بنقلهم من التقوقع الطائفي الى الانفتاح الوطني، ومن العزلة الوطنية الى الدور العربي الفاعل القادر وحده على تحصينهم ضد التدخلات الخارجية. ولنقل، أخيراً، ان فيب لامار على حق: ولادة الهوية العراقية الجديدة ليست سهلة، لا بل هي ستكون أشبه بعملية جراحية قيصرية يشرف عليها خمسة أطباء دفعة واحدة يتنازعون في ما بينهم على كل شيء! وبالطبع، مثل هذه العمليات قد تنجح في بعض الأحيان، لكن المريض في معظم هذه الأحيان قد لا ينجو