في ستينيات القرن الماضي كان محسن الحكيم الأقرب إلى السفارة البريطانية في بغداد، وكان صاحب الحظوة والتأثير في بلاط الشاهنشاه محمد رضا بهوي، كان الشاه يستخدمه ايضا كمرجعية لاذلال رجال الدين الإيرانيين، وكانت بريطانيا تعتبر تحالفه معها مقدسا، لان بريطانيا كانت تؤمن بأن مصالحها في إيران مضمونة طالما كان هناك رجال دين وبازار متحالفون معها، وكان جده الحكيم علي بن مراد بن ميرشاه طبيبا عند الشاه اسماعيل الصفوي، وقد اتهم محسن الحكيم بضلوعه في قتل معلمه محمد سعيد الحبوبي الشخصية الوطنية ورجل الدين العراقي، غير ان المعلومات تشير إلى ان بعضا من رجال الدين المقربين من قم، هم من سرب هذه الاخبار، في اطار اغتيال الشخصية، بسبب اعتماد الشاه عليه في الفتيا الدينية، خاصة في مواجهة الحقبة الشيوعية في إيرانوالعراق. ويبدو ان الحال من بعضه، حيث تذكر الوثائق البريطانية أن كاظم اليزدي كانت تربطه علاقات مع بريطانيا 1918، وانه وظف مكانته الدينية، لخدمة الوجود البريطاني مشترطا السرية، كي لا تؤدي معرفة الأمر وافتضاحه إلى سقوط تأثيره وشعبيته، وهو ما كان له، رغم انه كان بعيدا عنها وغير ميال لها، الا انه طالب ببقاء الاحتلال البريطاني لعدم وجود من يمكنه حكم العراق من العرب، على العكس من العلاقة التي ربطت المرجع علي السيستاني بحاكم العراق السابق بول بريمر الذي لم يصمت وأذاع خبر مداولاته والسيستاني ودعمه لدخول القوات الامريكية وعدم مقاومتها، ويؤخذ على مرجعيته الدينية أنها كانت من بين الأسباب الرئيسة التي شجعت على التغول الايراني وانتشار قوى الفساد، وتنافس الاحزاب الدينية وتعزيز السيطرة الايرانية. وقد ظل الصراع ما بين قم والنجف قائما وحتى اليوم رغم الهيمنة الايرانية، حيث يظهر المرجع علي السيستاني أنه لا يتدخل في الشؤون الداخلية، لدرجة منعه ائمة المساجد من تسييس خطبهم الدينية، بينما «سبب هذا الخلاف الرئيس هو التنافس على رئاسة الشيعة عالميا بين إيرانوالعراق؛ حيث يمثل مقتدى الصدر شيعة العراق نسبا، بينما يمثل السيستاني والحكيم شيعة إيران حيث يرجعون بأصولهم إلى إيران وهو ما أشار إليه مقتدى الصدر في حوار صحفي حيث قال إنه ليس بينه وبين مراجع الحوزة الدينية في النجف أي تنسيق، وحمل مسؤولية انعدام هذا التنسيق إلى هذه المراجع، خصوصاً المرجع علي السيستاني وبشير النجفي ومحمد الفياض ومحمد سعيد الحكيم، وأضاف إن هؤلاء يحاولون الابتعاد عن العمل السياسي والشأن العام بحجة أنهم ليسوا عراقيين». وتمكن محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر ان يكون شخصية عراقية مؤثرة في المسار الشيعي العربي، واعطى انطباعا مختلفا عما عليه المراجع التي تمتد بأصولها إلى ايران، نظرا لثرائه المعرفي ونزعته الوطنية، وكانت دروسه في الدين والوطنية، علامة بارزة ليس في الوسط الشيعي فقط بل في الوسط العربي في العراق، وانجزت هذه الشخصية جيلا من العلماء الشيعة العرب، مؤمن بخصوصيته، واستقلاليته عن الهيمنة الايرانية، في وقت كانت السيطرة على الدراسة الحوزوية تكون حكرا على الايرانيين والباكستانيين والأفغان، ويبعد عنها العرب لابعادهم عن زعامة الحوزة مستقبلا. التشيع في فترة محمد صادق الصدر كان وطنيا وعروبيا وعلويا وهو مختلف جذريا عما عليه في التشيع الفارسي، ولعل اشاعة الصدر مصطلح (الحوزة النائمة) وقال الصدر (الحوزة الصامتة قضت نحبها في حين نجت الحوزة الناطقة) وكانت هذه الاطلاقات هي تعبيرات اختلاف في طريقة التفكير وآليات ومنهجيات العمل، حيث ارتبطت المرجعية التقليدية في النجف بايران، بينما عمل الصدر على تحريرها وفك اسرها من الهيمنة الايرانية وجعلها ناطقة بالحق، حيث تضاف إليها أحيانا صفات أخرى، مثل (الحوزة الناطقة بالحق) و (الحوزة المجاهدة) وقد شهدت هذه المرحلة سلسلة من الاغتيالات وكاتمات الصوت للعديد من علماء الشيعة كالغروي، والخوئي، وكانت جزءا من لعبة الصراع ما بين شيعة ايران وشيعة العراق على زعامة النجف. هذا الصراع ما بين شيعة ايران (السيستاني، الحكيم) وشيعة العراق (الصدر) حيث بدأت الائتلافات الجديدة لمواجهة ما سمي في حينه بالموجة الصدرية، ويعكس ويؤكد ذلك الناطق الرسمي باسم مكتب مقتدى الصدر عدنان الشمحاني وجود هذه الخلافات والتحالفات في حوار صحافي قال فيه: «إن شعور العراقيين بالحاجة إلى حوزة عراقية هو وليد ظروف كثيرة، فقد عاصر هذا الجيل ثلاث أو أربع مرجعيات في أوقات متعاقبة، وجميعها لم تكن عراقية الأصل، فلم يلمس منها اندفاعاً باتجاه قضاياه العامة وتحديداً السياسية منها، وذلك على عكس الشهيدين الصدريين السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد صادق الصدر». وعليه لا يمكن تفسير العديد من الاغتيالات التي طالت بعض مراجع الشيعة في العراق بعيدا عن هذا الصراع، حيث إن التصادم بين الشيعة العراقية متمثلة في الصدر والشيعة الإيرانية متمثلة في الحكيم والسيستاني، كان واحدا من بين اسباب عديدة لاشتعال هذا الصراع، وهو ما يبرئ ساحة الحكم الوطني السابق من تهمة قتل المراجع العرب، ويؤكد أن للاستخبارات الايرانية وأدواتها دورا كبيرا في تصفية هذه المراجع أو عزلها وابعادها عن منطق التأثير كما عليه المرجع الصرجي والخالصي، ولهذا لايزال اتباع التيار الصدري يرون ان مقتل محمد صادق الصدر عام 1999 تم بتأثير ايراني للخلاص من شخصية شيعية عربية لها مكانتها، ويمكنها التأسيس لمرجعية عربية منفصلة عن السلطة الايرانية، وتعرض جعفر محمد باقر الصدر للمضايقة في ايران ومنعه من الصلاة، وغيرها من الاجراءات الايرانية المنفرة التي تؤكد أن ايران ليست راغبة بسيطرة عربية على النجف، والغريب في الامر ان الاعلام الايراني بدأ سلسلة من الحملات الاعلامية على محمد صادق الصدر ووصفه بالخائن ومستحق القتل قبيل مقتله، وانه متعاون والحكم الوطني، وما عبر عنه صدر الدين القبانجي الناطق باسم محمد باقر الحكيم في مقالة له في صحيفة «المبلغ الرسالي» اشار فيها قبل مقتل الصدر بأيام بأنه خائن ويستحق القتل وانه عميل، وقد اتهم الحكيم بمقتل الصدر، ما دفع بعض الشيعة للتعرض للحكيم في حسينية الصادق في إيران اثناء اقامة مراسم العزاء، وضربه بالنعال، وسميت وقتها بثورة وانتفاضة النعل. وظلت أحوال مراجع الشيعة العرب، في مستوى حياة المواطنين، الا اولئك الذين دخلوا مع ايران في علاقة تبعية، ومنحوا حق التصرف بالخمس، حيث كان الفرس يأتون للنجف، ويعيشون على صدقات العراقيين الشيعة، ولكنهم بعد ان يتعلموا ويعملوا ضمن لوبي موحد، أصبحوا من الاثرياء، بينما كانت مراجع وقامات شيعية عربية تعيش على الفاقة والستر والتواضع، لدرجة ان الشيخ محمد تقي آل راضي عندما توفي في النجف عام 1990 كان التقرير الطبي يشير الى انه مات بسبب سوء التغذية. ان الحوزة تشهد حالة احتقان داخلي وصراع كبير وهناك محاولات تقديم محمد سعيد الحكيم، وايران ترى أن الحوزة لم تعد مؤثرة في حياة العراقيين اليوم، وان دورها في تراجع، بسبب صمتها الرهيب، وهي محل نقد الوطنيين الشيعة في العراق، ومطالبتهم لها بأن يكون لها موقف وطني وموقف من التدخل الايراني في شؤون العراق، وهذا لن يكون، ويرى العراقيون أنه وان احتفلت بريطانيا بوفاة المرجع اليزدي عام 1919 بموسيقى جنائزية، فان امريكا قد تحتفل بتشييع جنائزي خاص يحضره بوش الاب والابن وبريمر، حال وفاة المرجع السيستاني، غير ان الاستعراضات الصدرية الاخيرة رغم السيطرة الايرانية، بدأت تثير المخاوف الايرانية، وقد يكون التعويل على التيار الصدري متزامنا مع رغبة أمريكية بتطبيق تسويات تاريخية في المنطقة وأولها العراق، ولعل معارك الموصل، ووجود داعش، وتحرير الفلوجة، ليست سوى محاولات ايرانية ولتيار ولاية الفقيه للهروب من الاستحقاقات الداخلية التي تفرض نفسها، فباسم محاربة داعش، يتم التجاوز عن مطالبات شيعة العراق بالاصلاحات السياسية، ونبذ وانهاء نظام المحاصصة الطائفية، وهو مشروع ترى ايران أنه بداية تراجع وجودها في العراق والمنطقة. أنصار مقتدى الصدر يتظاهرون أمام المنطقة الخضراء في بغداد