أثارت تفاعلات فضيحة نشر صور تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن ابو غريب على أيدي الجنود الأميركيين، الكثير من الامتعاض والاستنكار والادانة الدولية. وبقدر ما شكلت تلك الممارسات انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي والمسؤوليات المترتبة على دول الاحتلال، بموجب أنظمة لاهاي واتفاقية جنيف الرابعة، فانها وضعت سلطات الاحتلال الأميركي في وضع المدان الأول. فبعد عام على سقوط بغداد، وحل الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والاستخبارات وهياكل الوزارات، استفاق العالم على فاجعة لا تقل عن فاجعة الغاء الدولة العراقية. وذلك على رغم ان منظمات انسانية عراقية ودولية تعنى بحقوق الانسان، مثل وزارة "حقوق الانسان العراقي" و"منظمة العفو الدولية" و"راصد حقوق الانسان" والأممالمتحدة، كانت نبهت مبكراً الى خطورة انتشار ممارسات وتجاوزات غير انسانية في التعامل مع العراقيين، سواء في الحياة العامة او خلف جدران السجون. وحذرت تقارير تلك المنظمات من استخدام القوة المفرطة وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب وسياسة العقاب الجماعي. الا ان قوات الاحتلال الأميركي تعاملت مع ما كان يصلها من تقارير موثقة، والهمس الخجول من بعض أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، بالكثير من الخفة والفوقية. ففي غمرة الاعتذارات والوعيد بمحاسبة من تسبب في هذه الفضيحة تناست وسائل الاعلام سجن ابو غريب مرتين: الأولى تاريخه السيئ الصيت الذي يعود الى أكثر من ثلاثة عقود، والثانية نزلاؤه الذين غيبوا في أقبية التعذيب او من كتمت جدران ذلك السجن يومياتهم المغموسة بالألم والعذاب. لكن كل هذا لا يجب ان يكون حائلا دون ادانة ما جرى في السجن من انتهاكات على يد الاميركيين. ان صور اليوم تستدعي الذاكرة للعودة الى الوراء، وبالذات الى مجيء البعث للمرة الأولى في انقلاب 8 شباط فبراير 1963. آنذاك تحول "قصر الرحاب" الملكي الواقع قرب "جسر الخر" و"حي الحارثية" غرب دجلة الى معتقل أمني أطلق عليه اسم "قصر النهاية". ولعل مثل هذه التسمية لوحدها كفيلة بزرع الخوف والرهبة، ناهيك عما كان يمارس في حق المعتقلين السياسيين. ومثله تحوّل "قصر الزهور" الملكي، القريب منه، الى دائرة استخبارات. وعلى مسافة قصيرة استعان شباب الحرس القومي بملعب الادارة المحلية في المنصور ليصبح دائرة تحقيق، وتحت مدرجاته جرت محاكمات شكلية للمعارضين، خصوصاً الشيوعيين منهم، ورافقتها حفلات القتل الكيفي والاغتصابات. وعلى الجانب الشرقي لنهر دجلة تحولت صالات ومرافق الملعب الاولمبي في الاعظمية، و"ساحة الكشافة" المحاذية لمنطقة "الكسرة"، الى معتقلات ودوائر تحقيق. وعلى عجل حوّل الانقلابيون معسكر الخيالة المهجور الى سجن "خلف السدة". وبالحماس نفسه تم تجديد سجن "الفضيلية" على طريق بعقوبة القديم، والذي انطلقت منه "مؤامرة" مدير الأمن العام ناظم كزار في العام 1973. ويوحي ازدهار السجون في ظل البعث ان الحاكمين لم يعودوا يعيرون السجون التقليدية، مثل "سجن رقم واحد" في معسكر الرشيد والسجن المركزي في باب المعظم والسجن العثماني/ البريطاني ل"نقرة السلمان" في صحراء السماوة، والذي تحول في ما بعد الى "دائرة أعلاف المنطقة الجنوبية" بعد اغلاقه في العام 1969، الكثير من الاهتمام. او بمعنى آخر، اكتفت السجون التقليدية بأداء مهماتها، او انها لم تعد تفي بزرع الخوف في ظل العهد الجديد. سجون حديثة و"تقدمية" وضمن فورة البعث وحميته في تأكيد سلطته، وزرع الرعب واشتداد القمع السياسي، ولدت فكرة بناء سجن يحمل مواصفات حديثة. وبالفعل تمت المسوحات الأولية في منطقة ابو غريب الواقعة على بعد 30 كلم غرب بغداد، والى جانبه اذاعة ومعسكر ومهبط لطائرات الهليكوبتر، كلها تحمل الاسم نفسه. حينها كان الدكتور عبدالكريم هاني وزير العمل والشؤون الاجتماعية، الذي نفض خزائن المشاريع المعلقة، هو الذي أعطى اشارة البدء بالبناء وبمساعدة شركات ومقاولين بريطانيين. ولم يكتمل بناء مؤسسة "العقاب" هذه الا في العام 1969، اي بعد عام من وصول البعث مرة ثانية الى السلطة. وبالعودة الى العام 1963، وغداة وضعه الحجر الأساس صرح الوزير هاني قائلاً: "لا يمكن ان تكون اية بناية شراً بحد ذاتها، انما الناس الذين يديرونها يستطيعون تحويلها الى شر. ومن المفترض ان يكون سجن ابو غريب مركزاً حديثاً وتقدمياً". لكن الوزير لم يدرك حينها دورات الزمن الا بعد سنوات، وبالتحديد في تسعينات القرن الماضي، حيث قاده مصيره الى سجنه "الحديث والتقدمي"، اثر اتهامه بالتستر على معلومات مؤامرة لقلب نظام الحكم كان أحد معارفه متورطاً بها. يتربع سجن ابو غريب على مساحة 280 فداناً، ويحتوي على عدد كبير من الزنزانات والحجر من الصعب اعطاء رقم دقيق لعددها، حيث ان لبعض السجناء غرفاً خاصة أشبه بشقق صغيرة، حسب معلومات سجين سابق قضى فترة قصيرة فيه. الا ان جناح الاعدام هو الأبرز فيه، حيث يتخذ شكل حرف L في الانكليزية، ويبدأ بممر على جانبه عدد من الزنزانات الانفرادية المخصصة للمحكومين بالاعدام، يقابلها مكتب يكاد يكون خالياً من الأثاث تتم فيه المعاملات الادارية بما فيها اصدار شهادة الوفاة. ويتصاعد الممر ارتفاعاً بشكل تدريجي حتى ينتهي في غرفة الاعدام. محتويات غرفة الاعدام تكاد تكون محصورة ببرودة تبعثها في الجسد، ومشنقتين تتدلى منهما حبال بيضاء ناصعة، وفتحتين حديديتين يقف على واحدة منهما المحكوم بالاعدام. وهناك سلم يقود الى أسفل غرفة الاعدام العلوية التي يتواجد فيها عادة عدد قليل من رجال الشرطة او الأمن وطبيب وشخص يتولى سحب مقبض يتحكم في الفتحة التي يقف عليها المحكوم بالاعدام. ويقول طبيب طلب عدم ذكر اسمه، انه فور انتهاء عملية الشنق التي تتكرر أحياناً أكثر من مرة لعدم التيقن من الوفاة، تنقل الجثة الى مكتب أشبه بعيادة طبية صغيرة، تجرى فيها عمليات جراحية منها قلع العيون للاستفادة منها لاحقاً في زرع القرنية، حيث جمع في يوم واحد فقط 78 زوجاً من العيون، حسب قول الطبيب. بعدها يقوم الطبيب بالتوقيع على شهادة الوفاة، وأحيانا توقع هذه الوثيقة قبل تنفيذ حكم الاعدام. اما سكن الاطباء فهو عبارة عن احدى الزنزانات الفارغة، وأحيانا كان يوضع فيها سجين لخدمة الطبيب والتجسس عليه. يتولى مدير السجن تبليغ المعتقل بقرار الاعدام وموعده، وكثيراً ما كان يتم التلاعب بالاسماء عبر اضافة أسماء يريد مدير السجن او المسؤول الحزبي زرع الرهبة لديها ومعرفة رد فعلها. واشتهر مدير سجن ابو غريب حسن عباس العامري الذي قتل في بداية أيار مايو 1999 انتقاماً منه، في مثل هذه الممارسات. ومن المؤكد ان سجن أبو غريب يختزن كمية هائلة من الأسرار. وكان ذوو السجناء من الزوار، تختم على أياديهم اشارة غير منظورة من الصعب تبينها او تزويرها، يكتفون بلقاء السجين ولا يطالبون بالمزيد. في المقابل لم تسمح السلطات العراقية وقتها الى أي منظمة من المنظمات المعنية بحقوق الانسان من دخول عالم ابو غريب الرهيب. واكتفت تلك المنظمات بالتنديد بظروف اعتقال السجناء القابعين في داخله. واعتمدت في أغلب تقاريرها على بيانات المعارضة العراقية، أو من حالفه الحظ في اطلاق سراحه، ليحكي للعالم قصصاً يختلط فيها الرعب والخيال مع حقائق مبتسرة. جمع سجن ابو غريب في زنزاناته اللص والمزور والمرتشي والمُهرب والقاتل والعالم والاستاذ والسياسي بغض النظر عن انتمائه، سواء أكان اسلامياً او شيوعياً او كردياً. فقد كانت الوشاية والكيد وغياب القانون الذي يتباكي عليه اليوم كثيرون، كافية لايصال عاثر الحظ الى حتفه. ففي نظام اعتبر اقتناء الآلة الطابعة، او استنساج وثائق مهما كانت قيمتها، او انتقاد رئيس الدولة حتى ضمن دائرة البيت، او التحدث مع أجنبي، او رفض الانتماء الى حزب البعث، جريمة الجرائم، تصبح التهمة جاهزة وتنتظر من تلصق به. وضمن هذا الهاجس الأمني والاستخباري المدفوع بالخوف من الاخر والمجتمع يصبح كل عراقي متهماً حتى تثبت براءته لاحقاً. ألم يطلق النظام مقولته الشهيرة "شهداء ثورة الغضب" على ضحاياه ممن مزق الرصاص أجسادهم او حزت رقابهم حبال المشانق؟! كان السجين أو عاثر الحظ يمر بإحدى دوائر الأمن أو الشعب الحزبية قبل وصوله الى سجن ابو غريب. وعلى ضوء التهمة يحال السجناء إما الى قسم الأحكام الخفيفة التي تتراوح مدتها بين 5 أشهر و 5 أعوام، وإما الى قسم الاحكام الثقيلة التي تراوح بين الحكم المؤبد والاعدام، وإما الى سجن النساء المركون في جانب من تلك الاقسام إذا كان السجين امرأة. ابو وداد وعقيل وكاربينسكي من الصعب تحديد عدد الذين مروا في سجن ابو غريب. والصعوبة أكبر في معرفة من غُيبت أخبارهم نهائياً. إلا أن فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت الأكثر إيلاماً. آنذاك شهدت الساحة السياسية العراقية حملة منظمة للقضاء على المعارضة بكل ألوانها، وترافقت مع تصاعد الحرب العراقية - الايرانية. واشارت تقارير دولية متحفظة جداً غطت عقد الثمانينات فقط الى ان 16 ألف شخص اختفت أخبارهم نهائياً. حينها كان "ابو وداد" بطلاً من نوع مختلف. فهذا الجلاد، الفارع القامة والثمل دائماً، أنيطت به مهمة تنفيذ أحكام الاعدام شنقاً حتى الموت يومي الأربعاء والسبت من كل اسبوع في ساعات الغروب الأولى. ويقول شهود ان حبل المشنقة طال رقبة "ابو وداد" نفسه نتيجة تلقيه رشوة، واختفت أخباره في نهاية الثمانينات، ليحل بدلاً منه شخص أطلق على نفسه اسم "عقيل" ليلاقي مصير سابقه المجهول بعد دخول القوات الأميركية السجن. ولعل التذكير بحملة تنظيف السجون في هذا السياق التي أطلقها وأشرف عليها قصي ابن الرئيس العراقي المخلوع في العام 1998، كانت مثار مفارقة. فلم تتحرك وسائل الاعلام، ولم يتباك أحد على حقوق الانسان العراقي. وجاء العفو الرئاسي في تشرين الأول اكتوبر العام 2002، واطلاق سراح أكثر من 40 ألف سجين ليخلط اوراق وأسرار عالم سجن ابو غريب. وعند دخول القوات الأميركية نُهب السجن وأفرغ من محتوياته وسجلاته، واختفت وثائق من قضوا بين جدرانه. وبعدها تنبهت القوات الأميركية الى أمره، فأمرت بترميم بعض زنزاناته ودهان ممراته، لتستخدمه بدورها فتتصاعد الادانات لما جرى في حق المعتقلين العراقيين على يد سجانيهم الجدد، ويطوي العالم صفحة من صفحات كتاب سجن ابو غريب الاسود، وتصبح المجندة جانس كاربينسكي كبش فداء مغامرة الادارة الأميركية في العراق العرب والاجانب لم يكن سجن ابوغريب حكراً على العراقيين، فقد أحتضنت زنزاناته عدداً من الأجانب وكثيرون من الجنسيات العربية. ومن الأجانب، اعتقال البريطانيان مايكل واينرايت وبول رايد في العام 1992 لدخولهما الأراضي العراقية من دون الحصول على تأشيرة. ألقي القبض على واينرايت وهو على دراجته في شمال العراق وحكم عليه بالسجن 10 أعوام، وحكم على رايد لمدة 7 أعوام. سمحت سلطات بغداد للنائب العمالي البريطاني جورج غالوي بزيارتهما في سابقة نادرة، ووفرت له أجراء لقاء صحفي مطول بعد عام من أعتقالهما، من دون التطرق الى ما كان يجري في بقية أقسام السجن. وأطلق سراحهما في كانون الأولديسمبر من العام 1993 بعد وساطة من الحكومة البريطانية، والتماس رئيس الوزاء البريطاني يومها السير أدوراد هيث، في مقابل تحويل مبلغ 278 الف دولار من الأموال العراقية المجمدة في البنوك البريطانية اثر غزو العراق للكويت في العام 1990الى صندوق الأممالمتحدة. واودع الأميركيان ويليم بارلون وديفيد دالبرتي سجن أبوغريب، بعد أعتقالهما في13اذارمارس العام 1995 أثناء دخولها الأراضي العراقية من الحدود الكويتية، وحكم عليهما لفترة ثماني سنوات بتهمة التجسس. وأثر تدخلات أعضاء من الكونغرس الأميركي ووساطة من الملك حسين والشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر، أطلق سراحهما في تموزيوليو من العام نفسه بقرار وقعه صدام حسين، وتسلمهما في بغداد دبلوماسي بولندي كان يقوم بالمهام القنصلية للسفارة الأميركية. اما حصة العرب في سجن أبوغريب فشملت كل الجنسيات العربية ومن الجنسين تقريباً. من الأردن ومصر وسورية ولبنان والكويت وتونس والسودان، وكانت التهم المنسوبة لهم تتراوح بين السرقة والتزوير والرشوة والمتاجرة بالمخدرات وتهريب السيارات. اما الأحكام الصادرة بحقهم فراوحت بين الخفيفة والمتوسطة والمؤبدة والإعدام. ونفذ حكم الاعدام شنقاً حتى الموت بحق سيدة سورية في العام 1973، حسب رواية طبيب عراقي كان شاهداً. قتل عشوائي تقارير فان ديرشتويل، وزير الخارجية الهولندي ومقرر حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، هي الأكثر حيادية في مقاربة وضع حقوق الانسان في العراق. وكان هذا سبب منع ديرشتويل من دخول العراق منذ العام 1992، الا ان علاقته بوضع حقوق الانسان لم تنته. وعلى رغم انه تحفظ عن أغلب مصادر معلوماته، واعتمد على وثائق مهربة وشهادات حية، الا انه توقف عند جملة مراسيم عراقية تعسفية تدعو للقلق. بينها المرسوم الصادر عن مجلس قيادة الثورة الرقم 111 المؤرخ في 28 شباطفبراير 1990، والذي يمنع العقوبة عن الرجل الذي يقتل والدته او ابنته او اخته او عمته او خالته او بنت الاخ او بنت الاخت او بنت العم او الخال، اذا قامت هذه بارتكاب افعال غير اخلاقية. ويجوز له ايضا قتل الرجال الذين يرتكبون جريمة مواقعة قريباتهم. أما في شأن القتل العشوائي والتعسفي، فيشير مقرر حقوق الانسان الى المرسوم الصادر عن مجلس قيادة الثورة العراقي والمؤرخ في 21 كانون الأول ديسمبر 1992 والذي يمنح أعضاء حزب البعث وقوات الامن وغيرها من القوات المساندة للحكومة العراقية الحصانة من العقوبة اذا قاموا باصابة او بقتل اشخاص وهم يلاحقون المتسللين او الفارين من الجندية. وإذا كانت الحال خارج السجون على هذا الشكل، فما يحدث داخل السجون من إعدام وقتل وتعذيب هو تكريس لغياب مبدأ العدالة. ويشير ديرشتويل في تقريره المقدم للجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة في 14 نيسان ابريل 1998، الى اعدام أكثر من 1500 شخص خلال عام واحد. وتزامنت هذه الاعدامات مع حملة تنظيف السجون التي أطلقها قصي صدام حسين في تشرين الثاني نوفمبر وكانون الاول ديسمبر العام1997، وكان لسجناء ابو غريب والرضوانية النصيب الأكبر. ويذكر ديرشتويل حملة الاعدامات السريعة التي طالت 14 عسكرياً اتهموا بتدبير محاولة انقلابية في العام 1996، ما دفع أقاربهم الى الهجوم على سجن ابو غريب للانتقام.